بقلم: د. محمود خليل
هل كان الشيخ محمد عبده محقاً حين ندم على مشاركته فى الثورة العرابية؟ وهل كان موفقاً حين اختار طريق الإصلاح الاجتماعى والثقافى كسبيل لتغيير شكل الحياة فى المحروسة مصر أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؟.
فى مثل هذا الشهر (سبتمبر) من العام 1882 تمكن الإنجليز من احتلال مصر، عقب هزيمة أحمد عرابى فى معركة التل الكبير، وانتهت الهوجة العرابية -كما يطلق عليها بعض المؤرخين- بقيام «عرابى» بتسليم نفسه للقوات الغازية حتى يعامل كأسير حرب. وتم القبض على كل من أحاط بزعيم الثورة وسانده، ومنهم الشيخ محمد عبده، الذى صدر ضده حكم بالنفى خارج البلاد.
فى رحلة النفى والتيه فاجأ الشيخ محمد عبده من حوله بإعلان الندم على المشاركة فى الثورة العرابية، والتوبة عن العمل السياسى، وقال فيما يذكر البعض: «لعن الله السياسة وساس ويسوس وكل مشتقاتها». لا نستطيع أن نقرر هل ترددت الجملة الأخيرة على لسان الإمام أم لا، فلا يوجد فى كتب التاريخ ما يوثقها، لكنها فى كل الأحوال كانت تعكس حاله بعد فشل الثورة العرابية.
اختار محمد عبده طريق الإصلاح الاجتماعى والثقافى، وحتى يتمكن من ذلك رضى بأن يكون جزءاً من مركب السلطة القائمة حينذاك، حتى تفسح له المجال للحديث والكتابة لنشر أفكاره الإصلاحية، وانطلق الرجل بعد ذلك فى رحلة اجتهاد مشهودة من أجل إصلاح ثقافة المجتمع وترشيد سلوكياته، وحاول بقدر كبير من الأناة والتؤدة تفكيك بعض الأفكار التى كان يرى أنها تعرقل حركة المجتمع على طريق التقدم.
ليس هناك خلاف على أن الإمام نكأ جرحاً كبيراً حين اختار طريق «التغيير الثقافى» كمقدمة للتغيير العام فى مصر، لكن المشكلة أن يداً واحدة أو حتى عشرات الأيدى ليس فى مقدورها أن تحدث تغييرات ذات بال فى ثقافة المجتمع. فالأفكار والعادات والتقاليد وأساليب الحياة التى تراكمت عبر عشرات السنين، ليس من السهل أن يتمكن فرد أو مجموعة من تغييرها فى بضع سنين.
ألقى الإمام وتلامذته حجراً فى الماء الثقافى الراكد، فأحدثوا حركة وصخباً لبعض الوقت، يماثل الحركة والصخب الذى أحدثته الثورة العرابية، لكن سرعان ما عاد كل شىء إلى ما هو عليه. ويكفى أن نشير إلى أن نفس الأسئلة الإصلاحية التى طرحها الشيخ الإمام -قبل ما يقرب من قرن ونصف القرن من الزمان- فيما يتعلق بحجاب المرأة ودور العقل فى تفسير النص الدينى، وحتى الأسئلة الاجتماعية المتعلقة بالرشوة واستغلال النفوذ الوظيفى، والسحر والشعوذة وعلاقة البشر بالجن وغيرها ما زالت مطروحة بمنتهى الأريحية على مائدة العقل المصرى حتى اللحظة الحالية.
كان الإمام موفقاً حين انضم لـ«عرابى» ورجاله خلال أحداث الثورة العرابية؛ سعياً إلى بناء سلطة إصلاحية، وكان موضوعياً أيضاً حين اختار طريق الإصلاح الاجتماعى والثقافى بعدها. الحلقة المفقودة فى تجربته تتحدد على الخط الواصل بين عقل السلطة وعقل النخبة وعقل الجمهور. فالإصلاح سلسلة تتمثل حلقتها الأولى فى سلطة مؤمنة بالإصلاح، وحلقتها الثانية فى نخبة تجتهد فى السعى نحو الإصلاح، والثالثة جمهور يعطى أذنه لأصحاب الأفكار الإصلاحية.