بقلم: د. محمود خليل
مسألة السلام أو الدخول فى مفاوضات مع إسرائيل لاسترداد سيناء بعد احتلالها عام 1967 كانت حاضرة بقوة فى رأس «أنور السادات» عندما تولى الحكم أواخر عام 1970. ودّ الرجل لو تمكن من حل القضية عبر المسارات التفاوضية، لكن الظروف لم تكن تتيح له ذلك قبل عام 1973. كان عليه أن يخطو خطوة نحو الحرب تعقبها عدة خطوات نحو السلام.
خاضت قواتنا المسلحة حرباً مبهرة فى أكتوبر 1973، تمكنت فيها من عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف والتوغل لبضعة كيلومترات داخل سيناء. لم يكن فى الإمكان أبدع مما كان، وكل ما يردده البعض حول أن السادات تلكأ عن التحرك لمسافات أكبر داخل أرضنا المحتلة تفتقر إلى الواقعية. فالحرب ليست جندياً وسلاحاً فقط، بل هى اقتصاد وظروف دولية وظروف داخلية أيضاً. «السادات» بدا واقعياً للغاية وهو يقبل بوقف إطلاق النار والدخول فى مفاوضات «الكيلو 101».
لم يبدأ «السادات» السير فى طريق السلام إلا عندما غير معطيات المشهد على الأرض، بعدها بدأ يتحرك بمبدأ «السلام مقابل الأرض»، وكان يقصد بالأرض وقتها الأرض العربية ككل. من هذا المنطلق وقّع السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل، وبموجبها تم تحرير أرض سيناء. استرد «السادات» الأرض مقابل التوقيع على ورقة.
لم يمنح «السادات» إسرائيل «سلاماً مجانياً»، بل منحها «سلاماً مدفوعاً». ومبدأ «الأرض مقابل السلام» الذى رفضه العرب أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات مثل شعاراً أساسياً للعديد من المبادرات التى صدرت عنهم -فيما بعد- لإقامة سلام شامل وعادل مع إسرائيل. كل العرب رفعوا شعار «الأرض مقابل السلام»، لكن الظروف كانت قد تغيرت. وما قبلته إسرائيل بالأمس لم يعد مقبولاً لدى ساستها اليوم، بل وأصبحت تتعامل مع العرب بمبدأ «السلام مقابل الأرض»، بمعنى أن على العرب السكوت عن الأرض التى تحتلها إسرائيل مقابل أن يحظوا بعلاقات سلام معها.
المسألة فى الأول والآخر ترتبط بـ«التأثير الدولى المتصاعد لإسرائيل». والسلام مع إسرائيل من وجهة نظر بعض العرب يعنى المزيد من الحماية الدولية لهم. فإسرائيل أصبحت أشبه بشركة علاقات عامة تستطيع أن تبيض أو تسود وجه نظام سياسى أو دولة عربية معينة على مستوى العالم بحكم ما تملكه من تأثير دولى، وهى مثل كل الشركات التى تعمل فى هذا المجال تقدم خدمات مدفوعة.
للشعوب وهى تراقب خطوات السلام ما بين العرب وإسرائيل حسابات أخرى. قد تكون خطوات الساسة محل تقدير من جانبها، كما قدّر قطاع لا بأس به من المصريين خطوة السلام التى خطاها «السادات» عام 1977، لكن الكل اتفق على رفض فكرة «التطبيع الشعبى» كخطوة لاحقة لـ«التطبيع الرسمى».
عزوف الشعوب العربية عن التطبيع مسألة تُقلق صانع القرار فى تل أبيب، وهو يبذل جهداً دعائياً كبيراً فى هذا السياق، يستخدم فيه مواطنين إسرائيليين كانوا يعيشون فى الدول العربية قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948، لكن كل جهودها لم تحقق تحولاً ملموساً حتى اللحظة، لأنها ببساطة لا تفرق بين المزاج الرسمى والمزاج الشعبى. الخطوط واضحة فى ذهن الشعوب، فهى لا تفهم حكاية «السلام من أجل السلام»، لأنها تؤمن بأن السلام الحقيقى يبدأ برد الحقوق المسلوبة، بعدها يمكن أن تجلس وتتحدث عن تطبيع حقيقى بين الطرفين.