بعد نكسة يونيو 1967، بدأ كل من الدولة والمجتمع مراجعة أمينة للأوضاع التى أدّت إلى الهزيمة.
اكتشف المصريون حينها ببساطة أن سر مأساتهم هو «غياب الحساب»، فقد تركوا أصحاب القرار يتخذون ما يحلو لهم من إجراءات وقرارات دفع المصريون ثمنها غالياً فى ما بعد.
على سبيل المثال.. تذكّر المصريون سنوات تمتد من عام 1962 وحتى عام النكسة استُنزفت فيها مقدرات وإمكانيات الشعب المصرى فى مغامرة عسكرية ضد عدو غامض اسمه «الرجعية العربية»، رغم أن عدونا الظاهر والواضح (إسرائيل) كان يقف على الأبواب ويتربّص بنا الدوائر.
بدلاً من توجيه مال الشعب إلى تطوير المدارس والمرافق والمستشفيات تم توجيهه لدعم المجهود القتالى ضد الرجعية العربية.. وعندما حان وقت المواجهة مع إسرائيل كانت القوى منهكة فوقعت النكسة.
خلال هذه الفترة غابت مؤسسات الرقابة والحساب، وعلت أصوات أصحاب الطبل والمزمار على ما عداها، ودوّت الأغانى التى تمتدح فى الخطوة والقرار وصاحب القرار.
تغلغل الكذب، فاحتل كل المساحات وتاهت الحقيقة ولم يعد لها صوت ولا صدى.
اختُزلت حياة الناس وإنجازات الحكومات فى ذلك الوقت فى مجموعة من الأغانى التى كانت تتردّد على الألسن وعاش الناس بداخلها بعيداً عن الواقع الذى كانت أحواله تسوء شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى نقطة اللاعودة.
بعد النّكسة استيقظ الجميع على الحقيقة المرّة.. وبدأت محاولات الإصلاح.. وكانت أولى المحطات محاولة فتح باب الحريات وإتاحة الفرصة لنقد أداء المؤسسات ورفع الغطاء عن المشكلات التى بات المواطنون يعانون منها، لكن المشكلة أن السلطة حينذاك لم تفتح باب «النقد والحساب»، بل اكتفت بمواربته.
كانت فكرة الرأى الواحد والصوت الواحد وصانع القرار الأوحد ما زالت تُلهب خيال أهل الحكم أكثر من غيرها.. نعم اضطرتهم الظروف إلى التراجع بعض الشىء عنها وفتح الباب قليلاً، لكنهم ظلوا يتحينون الفرصة لإعادة الباب إلى وضع الإغلاق من جديد.
قطاعات لا بأس بها من أبناء هذا الشعب اكتشفت العلة المتمثلة فى «غياب الحساب» بعد النكسة، منها القطاع الذى انطلق فى شوارع القاهرة متظاهراً ضد الأحكام الهيّنة اللينة التى نالها المسئولون عن هزيمة 1967.
ثار الشباب حينها ضد محاولة «الإفلات من الحساب» ورأوا فيها محاولة للعودة إلى الآفة التى وصلت بنا إلى حافة الانهيار، ورغم ذلك استمرت سياسة «الباب الموارب» هى السائدة.
وارب «السادات» الباب بطريقته الخاصة فتحدث عن دستور جديد ومجلس نيابى قادر على المحاسبة، ثم اتجه إلى منح الفرصة لوجود أحزاب معارضة، ونزع الرقابة على الصحف، ورفع شعار «الكفاءات قبل الولاءات».
لم تأتِ المؤسسات التى استحدثها «السادات» بجديد، لأن مبدأ «الحساب» كان غائباً عنها.
فمجلس الشعب تحول إلى مجلس ملاكى يعمل بإشارة من أصابع السلطة، والأحزاب تحولت إلى كيانات ورقية تتمثل فى الصحف، والرقيب الذى اختفى من الصحف أعاد إنتاج نفسه فى شكل رئيس تحرير موالٍ للسلطة وأشد فتكاً بالرأى الآخر من الرقيب التقليدى، كما ظلت الحظوة لأهل الثقة على أهل الكفاءة.
باب الخروج من هذه الحالة أساسه: احترام الدستور، وجود مجلس نيابى منتخب وليس مصنوعاً، وأحزاب تملك برامج أكثر مما تُجعجع، وصحافة حرة قادرة على مراقبة أوجه الفساد والانحراف داخل المجتمع، وكفاءات حقيقية فى مواقع العمل.
هذا هو المجتمع الجديد الذى لم يزل المصريون يبحثون عنه منذ كارثة النكسة.