بقلم: د. محمود خليل
يعيد أسلوب تفاعل الكثيرين مع وفاة الكاتبة نوال السعداوى الحديث على ما أصاب الشخصية المصرية من تحولات خطيرة.نحن نعانى من حالة انقسام تفجرت تعابيرها على ساحة الأحداث خلال العقد الماضى.
وهى حالة تجد جذورها فى العقود السابقة، لكن يبدو أن شجرتها البائسة أخذت فى التفرع خلال الفترة الأخيرة.فريقان فى مصر الآن، ما إن يقع سوء أو مكروه لعضو أو رمز داخل أحدهما حتى يبادر أعضاء الفريق الثانى إلى إبداء أعلى درجات الفرح والتهليل والشماتة فيه.حدث ذلك مع فنانين ورجال سياسة وإعلاميين مرضوا أو توفاهم الله، كان آخرهم الكاتبة نوال السعداوى.
نوال السعداوى امرأة تفكر، لها آراؤها ووجهات نظرها واجتهاداتها، التى قد يتفق معها البعض فيها، وقد يختلف آخرون. والجدل واختلاف الرأى وتباين وجهات النظر حول الأفكار التى يطرحها أى شخص مسألة صحية.لا بأس من أن نتفق أو نختلف حول فكر نوال السعداوى، لكن عندما يكون محل الخلاف أو التباين فى وجهات النظر هو موقع السيدة الراحلة -رحمها الله- فى الآخرة وهل هى فى الجنة أم فى النار، فيصح أن نصف الخلاف أو التباين هنا بالمرضى.
قد يقول قائل إن السر فى هذا الجدل هو المتأسلمون ممن دأبوا على منح بطاقة الهوية الإسلامية لغيرهم فى الحياة، وتوزيع صكوك المغفرة والرحمة عليهم حين يستوفوا أجلهم ويصعدوا إلى خالقهم.هذا الكلام صحيح، لكنه يعرض جانباً واحداً من الصورة، لأن خصومهم على الضفة الأخرى من نهر الحياة فى مصر يتبنون هذا الطرح، فيمنحون من يريد بطاقة «الهوية الوطنية» لأنصارهم ويحجبونها عن غيرهم، وهم أيضاً لا يتلكأون عن منح صكوك الغفران أو العذاب المستطير لمن يتوفاهم الله من أعضاء الفريق الآخر.وأخشى أن أقول إن أغلب من يحكمون على إيمان أو وطنية غيرهم يرتكنون إما إلى ثقافة سماعية، أو إلى آفة الانقياد بروح القطيع.للإنصاف، مسألة الانقسام إلى فريقين فى تقييم الأشخاص والرموز مسألة قديمة فى الثقافة المصرية.
قد نجد جذورها فى حالة الانقسام التى ضربت المصريين أيام الثورة العرابية، ما بين مؤيدين لعرابى وناقمين عليه، وقد ظل مصطفى كامل يطعن فى «عرابى» وثورته حتى مات.
وبعد وفاة مصطفى كامل وصعود الوفد، حدث انقسام جديد، أصبح معه خليفة مصطفى كامل وهو الزعيم محمد فريد يأخذ موقفاً سلبياً من سعد زغلول، ولعلك تعلم ما سيطر على الأمة من انقسامات بعد ذلك بين الوفد والمنشقين عنه.لكن حتى هذه اللحظة لم تكن الخلافات من السعار بحيث تطعن فى دين أو وطنية.
حدث ذلك بعد صعود الفاشية السياسية بظهور الجماعات الراديكالية مثل الإخوان ومصر الفتاة، حين بدأ الغمز فى الدين، ثم كانت حركة الضباط فى يوليو لندخل بعدها إلى مرحلة الغمز فى الوطنية.المتدين الحقيقى لا يعرف لغيره إلا الدعاء بكل ما هو طيب، لأن الدين رحمة وتسامح، والله تعالى «رب الناس» جميعاً.والوطنى الحقيقى لا يعرف الطعن فى وطنية غيره، بل يؤمن أن الاختلاف فى الآراء ووجهات النظر من أجل الوطن جوهر من جواهر الوطنية.ليس من المعقول أن نقضى حياتنا منقسمين بين «الأبيض» و«الأحمر».