بقلم : محمود خليل
لم يكن توافر المال فى اليد وانتعاش القدرة الاقتصادية قريناً لانهيار الأخلاق فى يوم من الأيام، كما هو الحال فى أيامنا هذه. عبر تاريخه المديد لم يخل المجتمع المصرى فى فترة من الفترات من الأثرياء المترفين الذين يعيشون عيشة الأجاويد.
لم يكن الرخاء الاقتصادى لدى أسرة يدفع كبيرها أو كبيرتها إلى ترك الفرصة لأبنائهم ليفسدوا كما شاءوا وشاء لهم الهوى. على العكس تماماً كان المال يسخر لتوفير تعليم أفضل (فى مصر أو فى الخارج) وثقافة أرقى للأبناء تجعل منهم نماذج للأخلاق الرفيعة.
لو أنك تتبعت تاريخ اليسار المصرى على سبيل المثال، فستجد أن أغلب المؤسسين والمتبنين لأفكاره قبل ثورة يوليو 1952 كانوا من أبناء الباشوات والأعيان. من رحم الطبقة المخملية خرجت أصوات شابة تدعو إلى حق العامل فى الحياة وحمايته من تغول صاحب رأس المال، وتنادى بحق الفقراء فى الحياة، وتنظم قوافل محو الأمية للعمال فى المصانع والفلاحين فى المزارع، وتخطط لبناء مجتمع أكثر إيماناً بالعدالة الاجتماعية.
أغلب الأصوات اليسارية الشابة فى الثلاثينات والأربعينات كانت من أولاد الأغنياء العائدين من بعثات تعليمية فى أوروبا، تثقّفوا خلالها بالأفكار الاشتراكية. البعض كان يتعجب من سلوكهم ويتساءل: كيف يترك هؤلاء ما يمكن أن يوفّره لهم المال من متع ورفاهية يحن إليها كل الشباب ويغرقون فى شعارات العدالة الاجتماعية؟.
الإجابة عن السؤال بسيطة: إنها الثقافة والتعليم الحقيقى. فالثقافة حين تتمكن من العقل، والتعليم الحقيقى حين يعيد صياغة إنسانية صاحبه، يدفعان إلى سلوكيات أرقى. لا يصبح معها المال المصدر الوحيد للإحساس بالذات أو الوجاهة أو القيمة، بل تتقدم عليه عوامل التعليم والثقافة.
الوضع يختلف عندما يصبح المال المصدر الأول والأخير للوجاهة الاجتماعية، خصوصاً إذا وقع فى جيوب الجهلة وأنصاف المتعلمين. فمع غياب الثقافة والتعليم -بمعناهما الحقيقى- يصبح السقوط الأخلاقى أمراً طبيعياً. فالملل الناتج عن الإفراط فى إشباع الغرائز التقليدية يدفع صاحب المال إلى البحث فى دوائر اللامألوف واللامعروف وغير الشائع فيشذ عن كل القواعد التى ارتضاها المجتمع. لحظتها تصبح السلوكيات العجيبة والجديدة -على مستوى السقوط الأخلاقى- وسيلة لإثبات الذات والقيمة. ومنذ زمن بعيد كان هناك اتفاق فى أوروبا على أن السبب الأول لظهور الرغبات الشاذة المتوحشة يتمثل فى الملل من توافر سبل إشباع الرغبات الطبيعية.
علينا أن نعترف بأن المال هز ميزان الأخلاق داخل المجتمع المصرى. فوفرته غير المبرّرة وسهولة الوصول إليه من جانب البعض، وشحه وصعوبة مناله لدى كثيرين، أدت إلى اختلال المنظومة الأخلاقية للمصريين. والكارثة أن طريق المال السهل مفروش بالورود للأقل ثقافة وتعليماً، أما طريق المال الصعب الشحيح فمفروش بالأشواك، يسير عليها من يحاربون من أجل الحياة ببضاعة كاسدة تتمثل فى الفكر والعلم، ويلاقون كل العنت فى الحصول عليه، بسبب تراجع الطلب الرسمى والشعبى على الثقافة والعلم.
بإمكانك أن تقارن بين خرائط مستقبل أوائل الثانوية هذا العام ونظرائهم من أولاد المجتمع المخملى الفيرمونتى لتعرف صورة الحاضر ومسارات القادم.