بقلم: د. محمود خليل
يتوقف الناس أمام بعض المواقف التى يشاهدونها فى الواقع الحقيقى أو الافتراضى أو عبر شاشات الإعلام ويتساءلون: ماذا حدث للمصريين؟. فبعض السلوكيات باتت شاهدة على فيروس قسوة تغلغل فى أنسجة القلب فاحتلها عن آخرها ولم يترك مساحة للتسامح أو عذر الآخرين.
مشاهد تقلق بال المصريين الطيبين المشهورين بـ«العاطفية» و«الشهامة»، لكن يقلل من حدة القلق بعض المشاهد النقيضة التى يقفز فيها عرق العاطفية والشهامة فى وجوه البعض فيبادرون إلى الاحتكام إلى الأخلاقيات الطيبة للمصريين فى التعامل، ويمدون أيديهم إلى الآخرين.
عندما تقسو الحياة على البشر تقسو قلوبهم على بعضهم البعض. القسوة فى حياة المصريين ظاهرة مصنوعة تدخل فى صناعتها مجموعة من الموروثات والضغوط التى تدفع صاحبها إلى الاستقواء على الغير فى المواقف التى يشعر فيها بأنه الأقوى، والاستسلام له والانبطاح أمام (هذا الغير) حين يحس أنه الأضعف.
ممارسة القوة أو الضعف مسألتان نسبيتان. وعندما تشتد الحياة بضغوطها على الفرد يبدأ فى التسليم بهذه الثنائية النسبية، فيمارس القوة فى اللحظات التى يشعر فيها بالسيطرة على المواقف، ويمارس الضعف والاستسلام حين يجد أن السلامة فى ذلك.
إنها ببساطة ثقافة «عبدالمأمور».. ذلك المثل الذى ظل أجدادنا يرددونه عبر عقوة طويلة، وما زال يحيا ويرعى فى حياتنا حتى الآن. فى قرى مصر كان الخفراء يذهبون للحجز على ما يملكه الفلاح من بهائم وأدوات زراعة وغلة وملابس وغير ذلك إذا امتنع أو عجز عن دفع «الضريبة» للملتزم. وعندما كان أحد بسطاء القرية يلوم الخفير على قسوته وهو ينفذ حكم الملتزم بتجريد الفلاح مما يملك، كان يرد بهذه العبارة: أنا عبد المأمور.
الخفير «المستقوى» على الفلاح الضعيف كان معذوراً، لأن يد شيخ الخفر غليظة وهى قادرة على إلهابه بقسوة إذا قصّر فى أداء المهمة الموكلة إليه. وشيخ الخفر قوى على الخفير، لكنه ضعيف مهزوم أمام العمدة، والعمدة قوى على شيخ الخفر وشيخ البلد، لكنه ريشة لا تقوى على الصمود أمام رياح الغضب التى تخرج من فم الملتزم، والملتزم ضعيف أمام الوالى، والوالى ضعيف أمام السلطان صاحب الباب العالى، والسلطان ضعيف أمام حريمه، والحريم ضعيفة أمام الأبناء، والأبناء ضعاف أمام رغباتهم.. وهكذا تدور الدائرة بلا انقطاع.
أصل مثل «أنا عبد المأمور» هو عبارة «أنا عبد مأمور» التى وصف بها أمين الوحى جبريل عليه السلام نفسه وهو ينقل وحى السماء إلى الأرض، لكن يبدو أن المزاج المصرى حرفها ليضيف الألف واللام إلى كلمة «مأمور» ليفهم منها أن الشخص من هؤلاء هو عبد من يأمره ويملك عقابه.
نحن بحاجة إلى إحلال عبارة «الحق أحق أن يتبع» مكان المثل المقيت الذى يقول «أنا عبد المأمور». والحق هنا هو القانون والعرف والتقاليد والأخلاقيات التى تضغ أساساً للحقوق والواجبات، فكل له حقوق، وكل عليه واجبات، والقانون هو أعدل حكم بين الجميع. هذا التوجه يمكن أن يقلل بنسبة لا بأس بها من الضغوط التى أثقلت كاهل الناس، لترق أخلاقهم، وتصبح بعيدة عن القسوة والغلظة.