بقلم: د. محمود خليل
أظن أن الرسالة وصلت إلى إثيوبيا: لا تفريط فى نقطة واحدة من ماء النيل. الرسالة لم تصل إلى إثيوبيا وحدها.. بل بلغت أيضاً آذان كل من يهمه الأمر فى أفريقيا وأوروبا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وجميع المراكز الأخرى المهمومة بالأمن والسلم الدوليين.
أمران يجب أن تستوعبهما أديس أبابا وجميع العواصم العالمية ذات الصلة أو المهمومة بالاستقرار فى القارة السمراء.
الأمر الأول أن «ماء النيل» قضية شعبية تهم كل صغير وكبير من المصريين، رجالاً ونساء، فلاحين وعمالاً وطلبة وموظفين. كل مصرى على أتم استعداد لأن يدافع أى أذى قائم أو متوقع على مياه النيل.
النيل فى نظر المصريين هو جوهر حياتهم وسر ميلاد الدولة التى يعيشون فى فوق ترابها. إنها نظرة متجذرة منذ آلاف السنين.
منذ آلاف السنين وقف نبى الله موسى داعياً فرعون مصر إلى عبادة التوحيد، فسأله فرعون: وماذا سأحصل مقابل ذلك؟. فوعده موسى بجنة تجرى من تحتها الأنهار، فعلق الفرعون قائلاً كما يحكى القرآن الكريم: «ونادى فرعون فى قومه قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون».
الأمر الثانى يتعلق بالنيل كمصدر شرعية لأى حاكم يحكم. فكل من تداول على حكم مصر منذ عصر الفراعنة وحتى الآن يعلم أن الحفاظ على النيل والماء المتدفق فيه هو جوهر شرعيته.
ولعلك تعلم أن فترات الاهتزاز فى حكم مصر اقترنت بشح ماء النيل. يحكى التاريخ فى هذا الإطار حكايات توجع القلب حول ما كان يعانيه الأجداد فى فترات الجفاف (وهى 7 سنوات يسبقها سبع سمان).
انهار حكم الفاطميين لمصر الذى تواصل لأكثر من قرنين من الزمان بسبب جفاف النيل فى عهد المستنصر بالله (الشدة المستنصرية)، وفى عصر حكام المماليك كان شح النيل كفيلاً باهتزاز الأرض أسفل أقدام الأمراء والولاة مهما بلغت قوتهم.
منذ أن شرعت إثيوبيا فى بناء سد النهضة وثمة حالة من القلق تنتاب المصريين جميعاً، الكل كان يتابع المحطات المختلفة التى مرت بها رحلة المفاوضات التى بدأت منذ عام 2012 وتواصلت بعده، وكان يلاحظ حالة «التعثر» التى تمر بها والنتائج المحبطة التى كانت تنتهى إليها فى كل جولة، سواء الجولات التى ضمت الأطراف الثلاث، أو الجولات التى تدخل فيها طرف رابع بالوساطة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأفريقى.
المصريون كانوا يراقبون الأداء الإثيوبى المراوغ والعنيد.
ارتج أغلبهم وهم يشاهدون تداعيات الملء الأول (5 مليارات متر مكعب) على دولة السودان وتوقف محطات الشرب هناك، تابعوا بعدها استمرار المماطلات والمراوغات الإثيوبية، فأصبح التوجس من القادم يحكم نظرتهم إلى الأمر.
ليس أمام إثيوبيا حالياً إلا أن تستجيب لصوت العقل وتوقع على اتفاق ملزم فيما يتعلق بآلية الملء والتشغيل مع القبول بآلية دولية محددة فى حالة وقوع منازعات بين الدول الثلاث.
إثيوبيا الآن فى حالة اختيار.. أما نحن ففى لحظة حسم.