بقلم: د. محمود خليل
الإسلام دين ينهى عن تقديس الفرد، ونظرة الخالق إلى البشر نظرة متعادلة متساوية مهما بعدت بهم الأماكن أو الأزمنة. فالكل محاسب أمام الله تعالى. وليس من حق جيل أن يكون قيماً على جيل آخر. من الوارد أن يستفيد جيل لاحق من تجارب جيل سابق، لكن الاستفادة شىء والقوامة شىء آخر.
ويتصور البعض أن جيل الصحابة والأجيال الأولى من التابعين يتمتعون بنوع من القوامة على الأجيال التالية من المسلمين، ويضعونهم فى مرتبة تعلو بهم على البشر العاديين. ولو تأمل هؤلاء الكيفية التى أدار بها الصحابة المشهد بعد وفاة النبى فقد يراجعون أفكارهم.
لحظة وفاة النبى صلى الله عليه وسلم كانت لحظة فارقة فى تاريخ المسلمين، فما إن أعلن أن محمداً قد مات حتى ارتج المسلمون وزُلزلوا زلزالاً شديداً. بعض الصحابة فقدوا أعصابهم ولم يصدقوا أن النبى قد مات وانحاز إليهم رهط من المسلمين، فى حين سلّم الآخرون بوفاته صلى الله عليه وسلم مثلما يتوفى كل حى.
كان عمر بن الخطاب على رأس غير المصدقين، فقام يخطب الناس ويتوعد من قال مات بالقتل والقطع ويقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غشية، ولم يهدأ عمر إلا بعد أن استأذن أبوبكر من عائشة ودخل إلى حيث يرقد النبى صلى الله عليه وسلم واطلع عليه وتأكد من وفاته فبكى وقال: «ليس ما يقوله ابن الخطاب شيئاً. توفى رسول الله»، ثم خرج إلى الناس وحسم الأمر بتلاوة الآية الكريمة التى تقول: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ».
حسم أبوبكر الصديق المسألة ولم يترك أية فرصة لتحويل الإسلام إلى «محمدية». فالأصل هو الإسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الإسلام الذى دعا إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وكتابه الكريم الذى أنزله على عبده ونبيه، ويعد أن أدى المهمة جرت عليه سُنة الموت التى تجرى على كل حى.
إذن حسم أبوبكر الأمر حين اضطرب المسلمون ورفض بعضهم فكرة أن يموت النبى. واللافت أن عمر بن الخطاب كان ضمن فريق غير المصدقين كما ذكرت لك، رغم ما يذكره «ابن كثير» من أن عمر كان أول مَن توقع وفاة النبى حين نزل قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً»، يومها بكى عمر فقيل له: ما يبكيك؟. فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.. وكأنه استشعر وفاة النبى.
ليس من اليسير تفسير حالة الهلع التى أصابت عمر حين سمع بوفاة النبى رغم أنه كان أول من توقع ذلك. قد يكون مردها فرط المحبة والارتباط من جانب الجيل الذى عاصر النبى بشخصه الكريم، وربما كان تفسيرها الخلط بين محمد النبى ومحمد الإنسان. فمحمد النبى كان مؤيداً بالوحى وصاحب رسالة سماوية ورسولاً من الله إلى البشر، أما محمد الإنسان فيجرى عليه ما يجرى على كل إنسان: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ».
ذوبان الحدود الفاصلة بين محمد النبى ومحمد الإنسان كانت مثار استغراب العرب المكيين حين سألوا كما تقول الآية الكريمة: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً». لم يكن العرب يتصورون أن يكون النبى الذى يطالب أهل الجزيرة بالإيمان بدعوته مثل كل البشر العاديين يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، كانوا يتوقعون منه أن يؤدى كما يؤدى الأكاسرة والقياصرة والملوك، أن يكون شخصاً خارقاً للعادة يستطيع أن يأتى بما لم يأتِ به غيره. وإلى لحظة وفاة النبى لم يكن بعض العرب قد برئوا من هذه النظرة إلى النبى ويعتبرونه شخصاً فوق العادة أو خارقاً للعادة وصاحب معجزات أو يطلبون منه أن يكون كذلك.
كان البعض لا يستوعب أن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبى صلى الله عليه وسلم، ولم يفرق بين اصطفاء الله تعالى لمحمد بن عبدالله ليحمل رسالته إلى البشر بما يعنيه ذلك من توافر سمات أخلاقية وإنسانية استثنائية فى شخصه الكريم وبين الاستنتاج الذى خلص إليه بعض العرب من أنه لكى يكون محمد نبياً لا بد أن يكون شخصاً خارقاً للعادة.