لست أستغرب أن يفكر «ترامب» مثلما يفكر أحد رؤساء العالم الثالث. فميله إلى الأداء «الشعبوى»، وولعه بالاستفراد بالقرار، وتمسكه بالسلطة حتى آخر نفَس، واضح فى العديد من تصرفاته. الغريب حقاً أن يفكر ويؤدى قطاع من الشعب الأمريكى وكأنه ينتمى إلى دول العالم الثالث.
عندما نشر «ترامب» تغريدته التى تقول إن مؤسس تنظيم القاعدة «أسامة بن لادن» ما زال على قيد الحياة، وإن القوات الأمريكية قتلت شخصاً آخر فى عمليتها الشهيرة صدقه بعض الأمريكيين، وعندما أعاد نشرها منذ بضعة أيام صدقها البعض أيضاً.
صدّق بعض الأمريكان هذا الكلام.. ولم يلتفت أحدهم إلى أن «ترامب» لم يقدم أى دليل على ما يقول.. ولا يخفى على أحد أن الرئيس الأمريكى يمتلك الأدوات التى تمكنه من الوصول إلى الحقيقة والتدليل عليها إذا أراد، بدلاً من إطلاق «الفرقعات اللفظية» بلا دليل أو برهان.
بعض الأمريكيين انتقلوا من دائرة تصديق «الترهات» إلى «الغرق فى الخرافات». تستطيع أن تجد نموذجاً على ذلك فى المنتمين إلى جماعة «كيو أنون».
أغلب أعضاء الجماعة من اليمين المتطرف الأمريكى الذى يؤمن بنظرية المؤامرة، ويرون أن هناك خطة مُحكمة دبرها كل من باراك أوباما وهيلارى كلينتون للانقلاب عى دونالد ترامب بعد وصوله إلى الحكم!
يحتشد أنصار هذه الجماعة فى الحملات الانتخابية لترامب، ويُكثرون من استخدام «الدين» فى الإقناع بوجهة نظرهم، ويغرقون فى أحاديث أسطورية عن وجود جماعة سرية تدير العالم، وهى جماعة لها أهدافها الخاصة داخل دول العالم المختلفة، وتسعى إلى تحقيقها عبر وسائل وطرق غير أخلاقية.
أفكار هذه الجماعة تتردد على ألسنة شخصيات ذات وزن إعلامى وسياسى فى الولايات المتحدة، رغم عدم استنادها إلى أى دليل عقلانى أو منطقى، بل إلى كلام أصبح يكتسب قدرته على التأثير من بوابة التكرار أو «الزن ع الودان»، وليس من باب الوجاهة العقلية.
ولا أجدنى بحاجة إلى تفصيل الحديث عن إيمان بعض الأمريكيين بالفكرة «العنصرية» والنظر إلى الآخر ككائن أدنى، وقد بان ذلك فى الأحداث التى أعقبت مقتل «جورج فلويد» على يد شرطى أمريكى.
تصديق الكلام المرسل، والإيمان بنظرية «المؤامرة» دون وجود دليل عليها، والنظرة العنصرية التى تقسم المجتمعات إلى فرق تنسج الكراهية علاقتها ببعضها البعض، هى سمات سائدة لدى شعوب العالم الثالث، والمضحك أن تصل أعراضها إلى واحد من أكثر شعوب الأرض تعليماً وثقافة وتقدماً.
يبدو أن الجميع يستوى فى عصر ما بعد الحقيقة. وهو ذلك العصر الذى دلف العالم من بوابته عام 2016.
مصطلح «ما بعد الحقيقة» يعبر عن عصر تفقد فيه الحقيقة العقلية والمعلومة المنطقية قيمتها، فى الوقت الذى تصعد فيه أدوار الأفكار المطلقة والآراء المرسلة والأكاذيب المكررة المنظمة على ما عداها.
ليس مطلوباً فى عصر ما بعد الحقيقة أن تخاطب عقل الجمهور، الأهم أن تدغدغ مشاعره، وتستفز عواطفه، وتدفعه باستمرار إلى تهميش عقله، والتفاعل مع الحياة بردود الفعل الغريزية.
إنه عصر تراجع الحقيقة لحساب «الهرى».