بقلم: د. محمود خليل
النمرود شخصية تاريخية معروفة. هو ملك «بابل» الذى أعطته الدنيا كل ما يتوق إليه الإنسان حين يطمح إلى الملك: المال والنفوذ والسيطرة على الأشياء من حوله.
المتأمل للآية رقم 258 من سورة البقرة، والتى حكت قصته، يخلص إلى أن ثمة مفتاحاً أساسياً لشخصية النمرود. مفتاح «التحكم فى مصائر البشر».
سيطر على «النمرود» ذلك الإحساس السقيم بأن فى مقدوره أن يتحكم فى مصائر من حوله. كيف لا وهو الذى يجلس على مقعد السيادة ويملك المال والسطوة والقرار، فيستطيع أن يسوق هذا إلى العقاب، ويُنجى ذاك منه!
وقع النمرود فى هذا الفخ الخطير، وعندما جهر نبى الله إبراهيم بدعوته إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام جادله فيما يقول من موقع إحساسه بامتلاك «بابل» ومن عليها.
تقول الآية الكريمة: «ألمْ تَرَ إلى الذى حاجَّ إبراهيمَ فى ربه أنْ آتاهُ اللهُ الملك». فأصل تحرك النمرود ارتبط بإحساسه بالامتلاك، فانطلق يجادل «إبراهيم». استفسر منه عن الخالق الذى يدعو إليه من دون الأصنام التى يعبدها أهل بابل فردَّ عليه إبراهيم: «إذ قال إبراهيمُ ربى الذى يُحيى ويميت»، فعلَّق النمرود على كلامه قائلاً: «قال أنا أُحيى وأُميت».
تعليق النمرود يكشف لك المفتاح الذى حكم شخصيته، فقوله: «أنا أُحيى وأُميت» عكس إحساسه بالتحكم فى مصائر البشر، وإحساساً آخر موازياً بأن أحداً لا يقدر عليه، وهو إحساس دعمه عدم إيمانه بفكرة الحساب أمام خالق أو مخلوق.
تحول أداء «النمرود» إلى ظاهرة أطلق عليه البسطاء «النمردة» عبروا بها عن حال أى شخص تعطيه الدنيا مالاً أو نفوذاً أو مكانة أو مكاناً فيغلبه إحساس بأنه أصبح أكبر من غيره، وأن بإمكانه أن يهب من يريد ما يريد وأن يحرم من يريد حين يريد.
تجد مثل هذه الشخصيات تهدد وتتوعد، وترغى وتزبد بما تمتلك من أدوات تستطيع أن تلوى بها عنق الجميع.. صوتها عالٍ.. وقذائف الكلام حاضرة باستمرار على ألسنتها.. من ينظر إليها فى عزها -لحظة أن تعطيها الدنيا- يظن أنها أقوى من الجميع، وأقدر على فرض ما تريد على من تريد، لكن ما أسرع ما تتحول الأيام لتدير لها الدنيا وجهها وتعطيها قفاها، وقتها تجد النمرود الذى كان يعلو صوته بالأمس بالتهديد والوعيد وقد أصبح فأراً مذعوراً.
نمرود نبى الله إبراهيم اتسم بصفة فريدة من نوعها هى صفة الخجل: «قال إبراهيمُ فإنَّ الله يأتى بالشمسِ من المشرقِ فأتِ بها من المغربِ فبُهتَ الذى كَفَرَ واللهُ لا يهدى القومَ الظالمين».
فعندما أفحم نبىُّ الله «النمرودَ» بحجةٍ أبهتته، طلب منه فيها أن يأتى بالشمس من المغرب، شعر بالخجل، وأحس بعجزه، وانسحب من الحوار.
«النمردة» التى يتحدث عنها البسطاء ترتبط فى أحوال بشخصيات لا تعرف الخجل عندما تضعها الحياة فى مواقف تكشف عجزها، وأن ما كانت تتيه به بالأمس من قدرة على التحكم فى مصائر غيرها لم يكن أكثر من وَهْم، فتواصل توزيع اتهاماتها على كل من هب أمامها بقول أو دبَّ حيالها بكلمة، وتأخذها العزةُ بالإثم.
لا يتحكم فى مصائر البشر إلا خالقُ البشر.