بقلم: د. محمود خليل
من خارج الأحزاب والتيارات السياسية التقليدية فاز الدكتور قيس سعيد برئاسة تونس. وفى لبنان يرتفع هامش المطالبات الشعبية بنبذ الطائفية والمحاصصة السياسية وتأسيس نظام سياسى جديد بعيد عن التحزبات السياسية ويدفع بالعناصر الأقدر على الإدارة وحل المشكلات الشعبية إلى الصفوف الأمامية. وفى العراق تصاعدت الأصوات الداعية إلى تشكيل حكومة تكنوقراط قادرة على التعامل مع المشكلات التى أدت إلى خروج العراقيين إلى الشارع بمجرد أن أصدر عادل عبدالمهدى بياناً يوم الجمعة الماضى يعرب فيه عن نيته تقديم استقالته للبرلمان العراقى.
نحن أمام عصر عربى جديد لم يعد يعلو فيه صوت على صوت «الشارع». الشارع فى كل دولة عربية أصبح مستقلاً عن أى حزب، بل وكل المحاولات التى قامت بها الأحزاب والتيارات السياسية التقليدية لتوجيه بوصلته، سواء بالترهيب أو بالترغيب، باءت بالفشل. يشهد على ذلك فشل «حزب الله» فى لبنان فى كبح جماح الشارع الثائر، وأيضاً فى تونس حين فشل مرشح حركة النهضة والمرشحون الآخرون المحسوبون عليها فى ماراثون الانتخابات الرئاسية. مزاج الشارع العربى اختلف وأدوات تحريكه اختلفت أيضاً فقد أصبحت المجموعات الملتئمة عبر مواقع التواصل الاجتماعى أكبر من أى حزب وأقدر على تحريك الشارع من أية كتلة سياسية. ولم تعد أساليب «تحمير العينين» التى دأبت الحكومات العربية على الاعتماد عليها تجدى نفعاً. حمّر المسئولون اللبنانيون أعينهم للشعب لما نزل، فلم ينفعها ذلك فى شىء. عادل عبدالمهدى رئيس الحكومة العراقية الراحل خرج مهدداً ومتوعداً واستمع إلى توجيهات «طهران» فأعمل آلة القمع والقتل التى حصدت أرواح المئات وتسببت فى جرح الآلاف، لكن ظل الشارع العراقى صامداً يأبى أن يتزحزح حتى تمكن من الإطاحة بـ«عبدالمهدى».
يبدو أن الفكرة الحزبية أصبحت جزءاً من التاريخ السياسى العربى، وآن الأوان كى تأخذ موقعاً يليق بها فى المتاحف. فالناس لم تعد تتحرك سياسة قدر ما تتحرك اقتصاداً. بعبارة أخرى السياسة عند الشعوب أصبحت معادلاً موضوعياً للاقتصاد ليس أكثر، وقد تعلمت أن الحكومات الحزبية تعتمد على فكرة توزيع الأنصبة، والأنصبة لا تخلو من مكتسبات، والمكتسبات هى أصل بلوى الفساد التى أصيبت بها الشعوب وأصبحت ضحية لها، وبالتالى أدركت أن أولى خطوات محاربة الفساد الذى أدى إلى تسميم حياتها ومعيشتها هو ضرب الفكرة الحزبية والعودة إلى براح الشارع وصياغة مطالب محددة للتغيير تدور فى أغلبها حول استخدام السياسة كأداة للإصلاح الاقتصادى ومحاربة الفساد وحل المشكلات المعيشية.
على جميع الأحزاب العربية وكذا التيارات والكتل السياسية أن تعيد النظر فى أدوارها بعد أن غادرها الزمن العربى الجديد، وعليها أن تفهم لغة العصر الذى نعيش فيه، العصر الذى لا يؤمن فيه الفرد بفكرة أو مذهب أو عقيدة سوى «حقه فى الحياة» الكريمة التى تليق بالـ«بنى آدميين». ومعادلة «البنى آدم» هى المعادلة الأم التى فشلت الأحزاب والقوى السياسية العربية فى الوصول إليها، لأنها لا تنظر إلى أتباعها كـ«بنى آدميين» بل كأرقام توضع فى حصالة الانتخابات ثم يتم ركنها على جنب إلى أن يحين الموعد مع انتخابات جديدة.. الزمان اختلف!.