بقلم : محمود خليل
كان جمال عبدالناصر أوعى من كل الأطراف التى تصارعت على الحكم عام 1954 وأسرع منهم فى التحرك. فقد ابتلع مشهد التظاهرات والهتافات الأدهمية المطالبة بعودة «نجيب» المستقيل من رئاسة الجمهورية (فبراير 1954)، وفهم أن الإخوان هى المحرك الأول لها، فبادر إلى توجيه ضربة قاصمة للجماعة فى مارس 1954، وعندما أصبح محمد نجيب خالى الوفاض من «المحرك الشعبى»، الذى اعتمد عليه، بادر «ناصر» إلى اتخاذ قرار بإقالته -بموافقة مجلس قيادة الثورة- أواخر عام 1954. وعند هذه الخطوة تحول «الأداهم» إلى مواقع المتفرجين، بل قل اللامبالين. ويبدو أنهم نظروا إلى ما يحدث على أنه صراع على السلطة لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
فاز فى الصراع على السلطة عام 1954 الشخص الأكثر استيعاباً لتلافيف وأضابير الشخصية الأدهمية. اعتمد «ناصر» فى البداية على سياسة «هات وخد» فى التعامل مع «الأداهم». من أول القرارات التى اتخذتها الحركة المباركة «منع المظاهرات التى تؤدى إلى اندساس خصوم الثورة بين المتظاهرين»، ثم اتخذت يوم 2 أغسطس 1952 قراراً بإلغاء الرتب والألقاب المدنية (بك وباشا). اتخذت الثورة أيضاً عدة قرارات اقتصادية ضاغطة على «الأداهم» مثل زيادة رسوم الجمارك على الدخان، وفرض ضريبة 10% على المبالغ والتحويلات المرخص بها للسفر إلى الخارج، وزادت ضريبة الدخل وضريبة الأرباح التجارية والصناعية وضريبة كسب العمل وأرباح المهن الحرة. أمر السياسة لا يعنى الأداهم كثيراً، فأغلبهم غير مسيسين، لكن أمر المعايش يهمهم كل الأهمية، لأنهم يريدون الحياة، شأنهم شأن الأوادم فى كل الدنيا، وقد بدأوا فى الشعور بالتوجس عندما سمعوا محمد نجيب يبرر إنقاص وزن رغيف الخبز للمواطن قائلاً: «اعتبرها لقمة رميتها للقطة»!
هنا تحرك جمال عبدالناصر وأصر على اتخاذ خطوات جادة فى اتجاه تحديد الملكية وتوزيع الأرض على الفلاحين المعدمين، وصدر قانون الإصلاح الزراعى فى 9 سبتمبر 1952. ومع صدوره شعر الكثير من «الأداهم» أنهم أمام سلطة تأخذ وتعطى، وأنها تأخذ من الأغنياء -على وجه الخصوص- لتعطى الفقراء. ولا يخفى عليك أن هذا النمط من الأداء يدفع «الأدهم» إلى استدعاء فكرة الفتوة العادل من الذاكرة. والأدهم البسيط لا يهمه أن تأخذ السلطة بحق أو بدون حق. فالمهم أن تعطيه. وقد أعطى جمال عبدالناصر الناس أشياء ملموسة فى أيديهم: أرض يتمددون عليها، وتعليم مجانى، ووظائف مضمونة بعد الحصول على الشهادة، وبطاقات تموينية يصرفون بها احتياجاتهم، وجمعيات استهلاكية تحارب الغلاء. الأدهم البسيط أيضاً لا يهمه التفاصيل. فالمهم أن تكون لديه قطعة أرض ولو صغيرة ولا يهم تأثير تفتيت الملكية على الزراعة.. المهم أن تكون المدرسة أو الجامعة مجانية بغض النظر عن مستوى الخدمة التى تقدمها.. المهم أن يتعين الخريج وليس يهم أن يكون فى تخصصه أو خارجه.. المهم أن يحصل على القوت بأرخص الأسعار وليس يهم مستوى الجودة. أداهم كثر استفادوا من السياسات التى انتهجها الرئيس جمال عبدالناصر لأنه ببساطة أعطاهم أشياء فى أيديهم ومنافع تصب فى صميم حياتهم، لذا فقد أحبوه، وتمكن «ناصر» -عبر جسر التنهدات الأدهمية- من بناء ظهير شعبى متين أغناه عن الإخوان، الجماعة التى قرر التخلص منها إلى الأبد