بقلم: د. محمود خليل
«خلو البال» عنوان كتاب غزله يوسف إدريس فى القرن الماضى. ويشتمل على مجموعة من المقالات التى تجتهد فى تقديم إجابة عن السؤال اللغز: لماذا البال غير خالٍ؟
المقال الرئيسى الذى يحمل الفكرة هو مقال «خلو البال». وفيه يتحدث عن حال الكثيرين من حوله وأيضاً عن نفسه ويتساءل لماذا لا ينعم الجميع بخلو البال، كما ينعم به كثيرون فى بقاع متفرقة من أرض الله؟. يستدل الكاتب على ذلك بنموذجين لشاب وفتاة التقى بهما فى قطار بفرنسا.
الشاب لا يملك عملاً ثابتاً بل يعمل كمترجم بالقطعة، ترك أسرته الثرية وآثر أن يعيش بمفرده، تزوج ثم طلَّق زوجته بعد عامين، وينعم معها الآن بعلاقة صداقة ودودة. يحلم بأن يكون ممثلاً، ورغم تعثر خطواته، فإنه سعيد بمواصلة المحاولة. هو دائماً سعيد، ولا يحمل للدنيا هماً، ويعيش ببال رائق.
أما الفتاة فعاملة فى بوفيه القطار الذى يمتطيه الكاتب. تخدم أكثر من 300 راكب، وتقابل الجميع بابتسامة حقيقية تتلون بلون البهجة عندما ترتسم لشاب، وبلون العطف حين تتوجه لشيخ، وبلون البراءة حين تتجه نحو طفل. ابتسامة لا تعرف التصنع. إنها تبتسم رغم أنها سوف تترك عملها بعد شهر بالتمام والكمال. وعندما سألها الكاتب كيف ستتصرف؟ أجابته: أبحث عن عمل جديد؟. وهل عثرتِ عليه؟. بابتسامة مشرقة: لا.. لكننى واثقة أن الفرصة ستجىء.
الفوارق الواضحة بين الوجوه المشرقة بالابتسامة والألسنة المغردة بالألم داخل هذه المجتمعات والنقيض الذى يرسم وجه البشر فى حياتنا دفع الكاتب إلى التساؤل: ما السر فى خلو البال لدى هؤلاء وغيابه لدينا؟
الإجابة بسيطة: إنه الأمل والثقة فى المستقبل.. فهم عكسنا مطمئنون إلى المستقبل. يقول الكاتب: «المستقبل هو مشكلتنا ومبعث قلقنا والغيوم المسدلة فوق أعيننا».
انشغال البال هو أصل مشكلاتنا، وجوهر الإخفاق الذى نشعر به فى جنبات حياتنا. فصاحب البال المشغول لا يستطيع أن يتقن عملاً، أو يجوّد منتجاً، أو يوجِد حلاً لمشكلة، أو يتحمل المشكلات التى لا تخلو منها حياة إنسان، أو يطيق ضغوط غيره من البشر.
استحضر يوسف إدريس قصة شعبية لطيفة ليدلل بها على فكرته تحكى قصة نجار اعتلى «سقالة» بإحدى العمارات وأخذ يعمل بحرفية وإتقان بينما يصدح صوته بغناء عذب وبصوت يشع بهجة وأنساً وأملاً. توقف أسفل منه رجل انبهر ببراعة صنعته وباله الرائق وسأله: صنعة أم خلو بال؟. فأخذ النجار يضحك على سؤاله الذى لا يملك له إجابة.
قرر الرجل وضع النجار فى اختبار. أرسل سلة تحمل لحما ودجاجاً وألواناً مختلفة من الفواكه إلى زوجة النجار وأخبرها أنه مبعوث بها من طرف الزوج. عاد النجار آخر النهار فاخترقت رائحة الطعام الشهى أنفه، واتسعت عيناه وهو ينظر إلى سلة الفواكه التى يراها أمامه. سأل زوجته: من أين لك هذا؟. أجابته: أنت الذى أرسلتها. رد: أنا لم أرسل شيئاً.. قامت القيامة داخل بيت النجار.
فى اليوم التالى مر الرجل على النجار فوجده شارد البال سارحاً تسقط قطع الخشب من يده، وقد انقطع غناؤه، واكتسى وجهه بالهم والغم والكرب العظيم. سأله من جديد: صنعة أم راحة بال؟. صمت النجار ولم يجب. أخبره أنه هو الذى أرسل سلة الطعام إلى منزله. لحظتها اطمأن النجار وهدأ وراق باله، وعاد يعمل بمهارته المعهودة مغرداً بصوته العذب.
الشاهد: «انشغال البال على المستقبل» أصل العلة فى المشكلات التى تحاصرنا. صاحب البال الخالى وحده الذى يتقن صناعة الحياة ويبرع فى حل مشكلاته.