بقلم: د. محمود خليل
وُلدت الجدة «أنجيلا هوتر» عام 1913. بعد عام واحد من ولادتها دوَّت صافرات الإنذار فى أنحاء بريطانيا معلنة اندلاع الحرب العالمية الأولى. عاشت فى طفولتها المبكرة رعب وأحزان فيروس الإنفلونزا الإسبانية التى ضربت العالم عامى 1918 و1919. وفى مطلع الشباب أوجعها مثل ما أوجع جيلها سقوط العالم فى براثن الأزمة المالية العالمية أوائل الثلاثينات. بعدها ببضعة أعوام دارت رحى الحرب العالمية الثانية بدءاً من عام 1939 وواصلت الطحن فى البشر حتى عام 1945، سمعت الجدة عما فعلته القنابل النووية التى ألقيت على هيروشيما ونجازاكى من سحق للبشر فى قرى ومدن اليابان، وعاشت مرحلة الحرب الباردة، وظلت الأحداث تتدفق حتى وصل بها قطار الحياة إلى عام 2020 لتصاب بفيروس كورونا، وتنجو منه.
حظيت الجدة «هوتر» باهتمام العديد من وسائل الإعلام، وسلط الكثيرون الضوء على تجربتها فى النجاة من الفيروس اللعين الذى اغتال حياة عشرات الألوف من الشباب فى كل أنحاء العالم. عبارة واحدة ترددت على لسانها فى سياق الإجابة عن السؤال المتعلق بسر النجاة: «تعداد النعم». ها هى تضع يد غيرها على السر الخطير الذى عبَّرت به سلسلة المحن التى واجهتها فى الحياة عبر 107 أعوام من عمر الزمن.
التركيز فى النعم التى أنعم الله بها عليها كان السر الذى منح الجدة «هوتر» نفساً أطول للبقاء فى الحياة، لم تكن تركز فى الأوجاع التى عانت منها مع كل محنة واجهتها أو عاصرتها، بل كانت تتأمل فى رحمة الله حين عبرت منها، وتغزل خيطاً جديداً فى «ثوب الستر» الذى شملها الله تعالى به ليهبها النجاة. كذلك يفعل صاحب العقل الحكيم والنفس الواعية فى مواجهة الحياة. ينظر ويتأمل سطور النعم الإلهية التى تنير كتاب حياته، ولا يفكر فيما عداها. العاقل الواعى يفرح بالنجاة من المحنة، ولا يتوقف أمام ما عاناه. وعندما يواجه محنة جديدة يتذكر نعم الله السابقة عليه ثم يتأمّل خيراً فى النجاة.
الجدة نطقت بالحكمة حين عطرت لسانها بالعبارة العبقرية: «تعداد النعم». كثير من المسلمين يقرأون أو يسمعون أو يصدف أن تتسلل إلى آذانهم آيات سورة الرحمن التى يتكرر فيها السؤال الإلهى: «فبأى آلاء ربكما تكذبان» ويتعجبون من تكرار هذه الآية فى السورة الكريمة (31 مرة). المسألة ترتبط ببساطة بتعداد النعم التى تحدثت عنها الجدة «هوتر» التى ينعم بها «الرحمن الرحيم» على بنى آدم دون أن يتوقف أحدهم ليتأملها ويشكر الله عليها بالعمل والسلوك الكريم: «اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادى الشكور».
قالت الجدة: عش هادئاً تحيا حياة أسعد.. الأعمار بيد الله تعالى، وكل حى -فى النهاية- إلى زوال. والمسألة ليست فى عدد السنوات التى قدرها الله تعالى للمرء أن يحياها، بل فى العيش الهادئ السعيد الراضى، البعيد عن التوتر، والصامد فى وجه المحاولات التى تجتهد فى جره نحو الغرق فى مستنقع التعاسة.