التفاهة كانت ولا تزال موجودة فى كل زمان ومكان، يقبلها البشر ويتعاملون معها فى أحوال كجزء من الحياة، لكن المشكلة تظهر عندما تلف التفاهة الزمان والمكان فتصبح هى الحياة، وتروج بضاعتها فى الأسواق وتصغر الأشياء والأفكار ذات القيمة أمامها.
فى العصر الملكى كانت الأغنية التافهة موجودة، فسمع المصريون «يا شبشب الهنا يا ريتنى كنت أنا» و«ارخى الستارة اللى فى ريحنا» وغيرهما، لكنها كانت تمثل نقطة صغيرة تذوب فى عالم أكبر من الفن الغنائى ذى القيمة الذى كان ينطلق على لسان أم كلثوم وفريد وعبدالحليم وعلى أنغام السنباطى وعبدالوهاب وزكريا أحمد وغيرهم.
حتى نهاية العصر الملكى كانت التفاهة تتجلى فى أحيان عبر الكلمة الهابطة والحكى الساذج فى السينما والمسرح، أو من خلال الدعاية الفجة التى تحتفى بأمجاد الملك فاروق وأجداده.
بدت التفاهة بشكليها الهابط أو الدعائى طبيعية وجزءاً من حركة المجتمع المصرى شأنه شأن جميع المجتمعات، لكنها بحال لم تعبِّر عن حال الثقافة والفن المصريين ككل.
وعندما قامت ثورة يوليو 1952 ظلت القيمة هى الأساس فى تثمين سلعتى الفن والثقافة، وإن شهدت حقبة الستينات والسبعينات تمدداً وانتعاشاً لحركة الدعاية، لكن يبقى أن الأغانى الوطنية التى كان موضوعها «الوطن وأهله وناسه» كانت تحمل قيماً رفيعة، تعكس معانى ومشاعر يحسها المصريون.
أما الأغانى التى كانت تختزل الشعور الوطنى وتركزه فى شخص معين فقد زالت وأصبحت مجرد جزء من ذاكرة الفن.
تمدد التفاهة فى فن وثقافة المصريين اقترن بنكسة 1967، ولا أجدنى بحاجة إلى تذكيرك بأغانى «العتبة جزاز» و«الطشت قالى».
التفاهة -حينذاك- كانت مجرد وسيلة للتسلية والإضحاك فى زمن تشابكت فيه أحزان الناس وتوترت أحوالهم واهتزت أعصابهم تحت وقع النكسة.
كان الإضحاك والتسلية عبر التفاهة هو المعادل الموضوعى لحالة الحزن والبؤس والكدر التى سيطرت على العقل الثقافى والوجدان الفنى فى ذلك الوقت.
حتى ذلك الحين كانت الأمور تبدو طبيعية ومستساغة ولا تثريب عليها، لكن الصورة بدأت تختلف حين باتت التفاهة هى الأصل والقيمة هى الفرع.
التحول حدث أواخر السبعينات ومع مطلع الثمانينات وما تلاه، حين زحفت التفاهة على كل شىء، وأصبح «التافه» نجماً وبطلاً، ليس فى الفن والثقافة فقط، بل فى نواحٍ عدة من حياتنا.
مؤكد أنه كانت هناك استثناءات تدافع عن القيمة فى كل مجال، لكنها كانت استثناءات مؤكدة لقاعدة «التفاهة».
أصبح الجهلة وأنصاف المتعلمين نجوم الحياة. هؤلاء الذين يمزجون جهلهم بالعربجة والبلطجة، ويمزجون عربجتهم وبلطجتهم بالنصب واللصوصية واسترخاص كل قيمة، بما فيها قيمة الحياة.
عام 1980 صدرت صرخة تحذير من جانب صناع فيلم «انتبهوا أيها السادة» تنبه الناس إلى زحف التفاهة القادم، وحالة الانهيار القيمى التى بدأت تضرب المجتمع، لكن أحداً لم ينتبه.
ومع سيطرة الغفلة وتوافر الظرف المواتى توسع سوق التفاهة، ومع الإفساد المتعمد لذوق الناس وأنماط تفكيرهم راج الطلب على «التفاهة».. وها هو المجتمع يصرخ من آثارها الآن.