حتى كتابة هذه السطور لم تتحدد نتيجة انتخابات الرئاسة الأمريكية بعد، لكن المؤشرات تقول إن جو بايدن يتقدم فى السباق و«ترامب» يخسر.
«ترامب» يخسر، وربما يصبح واحداً من عدد قليل من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، ممن حكموا لمدة واحدة وفشل فى الفوز لمدة ثانية.
الخسارة تبدو طبيعية.. فماذا يمكن أن يحصد رجل لا ينظر أبعد من كرسى حكمه فى نظام سياسى يرتكز على الديمقراطية، ولا يمنح أى فرد مهما كانت مصادر قوته ومهما امتلك من أدوات فرصة الاستمرار فى الحكم إلا بإرادة شعبه؟
وصل «ترامب» إلى البيت الأبيض على سفينة «الشعبوية». تلك «الموضة» التى خلبت عقل المواطن الأمريكى لبعض الوقت، وأحس معها بالانبهار بشخصية «ترامب» الذى يحمل خطاباً جديداً ويؤدى بطريقة شديدة الإثارة، وكأنه شخصية وقعت من أحد أفلام «الأكشن».
منذ وصوله إلى البيت الأبيض بدا «ترامب» جريئاً.. فردياً.. لا يعرف الحسابات السياسية ولا يريد أن يفهم شيئاً عنها.. يبيع العقل فى سوق الإثارة.. يضع الأوهام فى علب شديدة الشياكة.. ويبيعها بأغلى الأثمان.. لا يحب المؤسسات لأنه جاء من خارج المؤسسة السياسية.. من يختلف معه فى الرأى يطيح به فى عرض الطريق.
دخل «ترامب» إلى البيت الأبيض وهو يحمل «ثقافة السوق» بما تحتويه من قيم الجرأة، والمغامرة، والقبول بفكرة المخاطرة، ورفض المؤسسية، وتحكم صاحب المال فى القرار. أدى بهذه الطريقة وسارت معه الأمور فظن أنها الطريقة المثلى فزاد فى الجرعة.
ترنُّح «ترامب» طبيعى لأنه لم يفهم أن أداءه يتصادم مع الثقافة السائدة لدى غالبية المواطنين الأمريكيين.
الثقافة التى تقوم على احترام فكرة المؤسسة والدولة، وتؤمن بقيم الديمقراطية، تحب الشخص الناجح وتعلى من قيمته، لكنها تؤمن بحق الجميع فى الحياة، قد يسيطر عليها نوازع عنصرية فى لحظات، لكن سرعان ما تعود إلى عقلانيتها لتدرك أن العنصرية مهلكة للجميع.
الثقافة التى ترحب بالمكسب لكنها ترى أن صاحبه مطالب بدفع ما عليه من ضرائب، وتنظر إلى المراوغ فى الدفع كلص يستحق المحاسبة.
الثقافة التى ترى أن الطبقة الوسطى «رمانة الميزان» وأن الدولة لا بد ألا تسمح باهتزازها أو تأرجحها عبر إلهاب ظهورها بالضرائب فى وقت يتم التخفيف فيه على رجال الأعمال.
الثقافة التى ترى أن رئيس الولايات المتحدة يأتى بالديمقراطية، ولا بد أن يحكم بها، ولا يحلم بأن يؤدى بطريقة حكام العالم الثالث، فيستبد بالقرار، ويستخف بمؤسسات الدولة، ويظن أنه «أحدق» من الشعب، وقادر على خداعه للاستمرار فى الحكم بـ«العافية» أو بـ«القوة».
تصادم «ترامب» مع الثقافة السائدة لدى غالبية الأمريكان دفع الناخبين إلى صفعه على وجهه.
صفعه نحو 72 مليون أمريكى أو أكثر على وجهه -حتى الآن- حين سارعوا إلى منح أصواتهم لغريمه «بايدن»، ليس حباً فى الأخير، لكن نكاية فى «ترامب».
صفعته بعض الولايات التى كان على ثقة بأنها ستعطيه أصواتها بسبب ميلها إلى الجمهوريين، ومنحتها لغريمه الديمقراطى.
صفعه الشعب الأمريكى على وجهه حين بادرت أغلبيته ونسقت كل أطيافه للهرولة إلى اللجان الانتخابية، مدفوعين بالرغبة فى التخلص منه.
بإمكانك أن تخدع شعباً لبعض الوقت، لكن هيهات هيهات أن تخدعه طول الوقت.