يبدو أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا المعاصرة.. تلك هى «ثقافة الاختزال».
الاختزال يعنى ببساطة تلخيص مجموع أو ظاهرة أو سلوك فى شخص.
الاختزال قد يكون موضوعياً عندما يتحول شخص معين إلى رمز لمجموع أو ظاهرة أو سلوك، مثل رمزية سيدة القطار الشهيرة التى دفعت ثمن التذكرة للمجند على الأمهات المصريات وما يتمتعن به من عطف وتعاطف.
ويصبح الاختزال مراوغاً إذا ركزنا الضوء على نموذج واحد معبر عن قطاع يعيش مشكلات معينة، شمّر المجتمع عن ساعديه من أجل حلها، بل ودغدغته وتهنينه!.
لدينا نموذج قريب على الاختزال المراوغ، يتمثل فى الشاب «بائع الفريسكا» الذى حصل على مجموع كبير فى الثانوية العامة، وشرع المجتمع وكذا الحكومة فى الاحتفاء ودعمه بما يعينه على استكمال مشوار تعليمه فى كلية الطب.
جوهر المراوغة فى هذا النوع من الاختزال أنه يجعل من حل مشكلة فرد يعبر عن مجموع حلاً لمشكلة المجموع. بمعنى أن يظن البعض أن بائع الفريسكا هو الشاب المجتهد الوحيد فى البلاد وأن حل مشكلته يعنى أن المجتمع والحكومة قاما بواجبهما فى دعم المجتهدين. فواقع الحال أن هناك طابوراً طويلاً عريضاً من الشباب المجتهدين، تحبط الظروف سعيهم وآمالهم فى الحياة، لأنهم لم يجدوا من يمد لهم يد العون.
وثمة مثل أقرب على هذا النوع من الاختزال يتمثل فى «السيدة نعمات» التى تم التقاط صورة لها وهى تجلس فى أحد شوارع الإسكندرية الغارق بالأمطار التى شهدتها البلاد يوم الجمعة الماضى، لتبيع «الترمس» للمارة، ويظهر على وجهها المصرى الطيب علامات التعب والإجهاد.
جابت صورة «السيدة نعمات» مواقع التواصل الاجتماعى، وشغلت روادها، الذين أنشأوا يقارنون بين «الست الشقيانة» وسيدات أخريات ينعمن بالدخل الوفير والحياة المخملية ويمتطين ظهور الطائرات الخاصة وخلافه.
بعثت إليها سيدة القطار -الرمز الاختزالى للأم المصرية التى تعاطفت مع مجند ودفعت له ثمن تذكرة القطار- برسالة احترام وتوقير.
الفنانة ياسمين صبرى تواصلت مع الحاجة نعمات -سيدة المطر- وأعربت عن استعدادها تلبية كل احتياجاتها المعيشية، وهى لفتة إنسانية كريمة لا يمكن أن ننكرها. ومن المتوقع أن تتلوها لفتات أخرى من نجوم الحكومة والمجتمع تدعم السيدة التى تسعى وراء قوتها بالأضافير.
لكن يبقى أن الصورة التى ظهرت الحاجة نعمات فى بؤرتها أهملت -فى الخلفية- عشرات الآلاف من السيدات الأخريات اللائى يعملن عملها، ويحتملن الأمطار السائلة والشمس الحارقة ليبعن الخضراوات والفجل والجرجير والجبن القريش والجبن القديم والمش والبيض والطيور التى ربينها فى عشش المنازل، كى يكسبن بضعة جنيهات تعيش أسر بأكملها عليها.
حل مشكلة «الحاجة نعمات» لا يعنى بحال حل مشكلات هذا الطابور الطويل العريض من السيدات الفضليات اللاتى يشربن مرار الحياة، ويشقين وراء رزقهن تحت أى ظرف.
من المريح جداً لضمير المجتمع أو الحكومة المبادرة إلى حل مشكلة فرد واحد، ليفلت الطرفان بعد ذلك من مشكلة المجموع التى يعبر عنها الفرد.
هذا الفيلم القائم على «الاختزال المراوغ» شاهدناه عدة مرات خلال الفترة الأخيرة.. والتكرار يؤدى إلى الملل!.