تحمل العبارة القرآنية: «كأنهم خشب مسندة» معنى يجدر التذكير به. معنى بإمكانه أن يقدم تفسيراً للجرائم العجيبة التى تقفز بين الحين والآخر على شاشة حياة المصريين. آخرها على سبيل المثال قضية «سفاح الجيزة» وما ارتبط بها من تفاصيل شديدة الغرابة والشذوذ.
هذه الجرائم -بداية- هى جرائم آحاد، ولا نستطيع أن نقول إنها تشكل ظاهرة، لكنها تحمل فى طياتها مؤشرات خطرة على أحوال ومآلات هذا المجتمع.
سؤال يجدر بنا طرحه على هامش جريمة سفاح الجيزة وما يشبهها.. هو: كيف يفقد الإنسان أخلاقه؟.
والإجابة: عندما يموت الإحساس داخل الإنسان يفقد أخلاقه. فالإحساس أصل الأخلاق والرافد الأهم لتغذيتها.
عندما يفقد الأب مشاعر الأبوة، أو الأم مشاعر الأمومة، أو الابن مشاعر البنوة، أو المتحرش مشاعر النخوة، أو الظالم مشاعر العطف، أو القوى مشاعر التواضع وخفض الجناح للضعيف، والسادر فى الغى مشاعر الخوف من الحساب، والفاسد مشاعر الخوف من القانون، والطاغى مشاعر الحذر من غضبة المظاليم، عندما تضمحل هذه المشاعر داخل نفوس أصحابها تضيع الأخلاق.
متى تموت المشاعر داخل الإنسان؟. قد تستغرب إذا قلت لك إن المشاعر تموت داخل النفوس عندما يسكنها النفاق.
عندما يضرب النفاق مجتمعاً يتحول أناسه إلى مجموعة من الخشب المسندة، تماماً مثلما وصف الله تعالى المنافقين: «وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم».
فأول درس يتعلمه المنافق أن ينحى مشاعره وأحاسيسه نحو البشر الذين يتعامل معهم جانباً، فيداهنهم ويكذب عليهم ويمتدح حكمتهم فى وقت يعتبرهم فيه أهبل خلق الله، ويتغزل فى رقتهم وهو الذى يراهم أفظاظاً غلاظاً.
العلاقات الأسرية والاجتماعية والإنسانية التى يسودها النفاق ويسيطر عليها الكذب والمراوغة هى المقدمات الأولى لانهيار الأخلاق.
المنافق صورة بلا عقل، وجسد بلا روح، وشكل بلا مضمون، قد يعجبك منظره، ويجذبك كلامه، لكنك لا تعلم أنه يمكث فى انتظار اللحظة التى تصبح فيها الأجواء مهيأة ليظهر شيطانه ليعيث فى الأرض فساداً ويهتك كل الأخلاق ويرتكب أبشع الجرائم.
المجتمعات التى يسودها النفاق يتحول فيها البشر إلى تماثيل فاقدة الإحساس ضائعة العقل. وأشكال ووسائل ضياع العقل والإحساس عديدة.
المخدرات وسيلة سهلة وقصيرة لذلك، ونزع الكرامة أداة، وركل القيم ووطئها بالأقدام سبيل، وإعلاء المال على ما عداه من معطيات الحياة طريق سهل لضياع العقل والإحساس.
هذه الوسائل والأدوات والسبل والطرق تأخذ بيد صاحبها إلى الحالة التى يمكن وصفها بـ«الحالة الخشبية» ليتحول البشر إلى مجموعة من الخُشُب المسندة «يحسبون كل صيحة عليهم».
قطعة الخشب لا عقل لها ولا إحساس ولا مشاعر، ولأنها كذلك فهى قابلة للتشكيل فى أى صورة يرضاها صانعها، مثلها مثل المنافق الذى يجيد التشكل فى الصورة التى يريدها عليه سيده، أياً كان هذا السيد (الزوج - الزوجة - الابن - الجار - الصاحب - الشريك - رئيسه فى العمل)، انتظاراً للحظة معينة يطلق فيها قذائف نفسه الضائعة على هذا السيد.
هنالك يقتل الزوج زوجته، والزوجة زوجها، والأب ابنه، والأم وليدها، والابن أباه وأمه، والصديق صديقه، يسرق ويهرّب ويفعل كل شىء، لأنه فقد الإحساس بأى شىء.