أكثر ما يزعج فى واقعنا خلال السنوات الماضية هو حالة التصدع فى الأخلاقيات التى عشنا نتباهى بها لسنين طويلة.
بدلاً من التماس العذر فى الخطأ، أصبحنا نتصيّد الأخطاء (تبعاً لموقع صاحبه).
بدلاً من مشاركة المريض آلامه والدعاء له بالشفاء، أصبحنا نتشفى فى مرضه (تبعاً للاتجاه نحو صاحبه).
بدلاً من الترحم على راحل، أصبحنا نرجم نعشه بالحجارة، ويشمت البعض فى وفاته (تبعاً للموقف منه).
بدلاً من النقاش البنّاء، أصبح نقاشنا صراخاً وسباباً وشتائم وتبادل اتهامات (تبعاً لسلاطة اللسان).
الصدع الأخلاقى الذى أصيب به مجتمعنا خلال السنوات الأخيرة له ما قبله، وله أيضاً ما بعده.
ما قبله تمثَّل فى ظهور أنواع شتى من التجارة التى راجت سلعتها بين المصريين، مثل التجارة بالدين والتجارة بالوطنية والتجارة بالفقر والتجارة بالتنوير، بل وحتى التجارة بالمرأة، وخلافه.
مسألة التجارة بالدين لعبة يمارسها الجميع، جماعات الإسلام السياسى تتاجر به لتحقيق أهداف سياسية، والحكومة تتاجر به لأهداف اجتماعية واقتصادية وأحياناً سياسية، وبعض المشايخ والدعاة يتاجرون به لأهداف دنيوية ربحية، وجموع الناس تتاجر به كنوع من نفاق السماء وخداع الذات التى لا تفهم أن التدين سلوك وليس صراخاً فى واقع طبيعى أو افتراضى بـ«لبيك يا رسول الله».
عندما يصبح الدين سلعة مطروحة فى الأسواق وليس قيماً تتربع على عرش القلب وتحكم السلوك، يتصدع بناء الأخلاق.
التجارة بالوطنية لعبة قديمة متجددة تظهر وفقاً للطلب، فعندما يحكم الشخص العجز عن التبرير أو التفسير أو الصمود أمام رأى مخالف، فإنه يدس يده فى جيبه ليُخرج صكوك الوطنية، فيتهم غيره بما نعرفه من مفردات.
راجت أشكال التجارة بالوطنية خلال السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ. وما أكثر ما كنا نسمع أصواتاً تردد: «هذا هو الرأى أما غيره فخيانة» أو تقول: «اللى مش عاجبه البلد دى يغور منها».
عندما تصبح الوطنية كلاماً وغناء مدفوع الأجر، وليس عملاً وسلوكاً وإخلاصاً وعطاء للوطن، يتصدع بناء الأخلاق.
التجارة بالفقر أيضاً شكل قديم متجدد من أشكال التجارة التى انتعشت فيما مضى ولم تزل تجد لها سوقاً رائجة فى العصر الحالى. فهذا يقدم نفسه كمحامٍ مدافع عن الفقراء، وذاك يقول إنه رسول العناية الإلهية لإنقاذهم، هذا يقول إنهم يعيشون أزهى عصورهم، وآخر يرد: لقد سفّ الفقراء التراب.
عندما يتحول الفقراء إلى سلعة يُزج بها فى أسواق الصراع السياسى، توقّع استمرار الفقر إلى ما لا نهاية.
تعالَ إلى التجارة بالتنوير، والتى يختلط فيها الجاد بالسطحى، والهادف بالانتفاعى، والقناعة بالغرض، لتجد حالة مع عدم التفرقة بين التنوير كضرورة من ضرورات بناء العقل المسلم القادر على التفاعل الإيجابى مع معطيات العصر وبين الهجوم غير المحسوب على بعض الثوابت الإسلامية.
عندما يصبح التنوير ضرباً فى الثوابت وليس مراجعة وتطويراً وعصرنة للعقل وأساليب تفاعله مع الحياة، فتوقّع استمرار تدفق الخرافة والجهالات فى شرايين المجتمع.
أشكال عدة من التجارة تضافرت فيما بينها وأحدثت الصدع الأخلاقى الخطير الذى نعانى منه.
لكن يبقى أن الأخطر هو ما بعد التصدع.
ففكرة القسمة على اثنين، والتى تشعل منها حالة التشنج التى تسيطر على كثيرين، قد تضعنا مستقبلاً أمام محنة أكبر، عندما تبتلع الأفواه الألسنة وتبدأ المخالب فى العمل.
اضغط على جرس الإنذار.