بقلم: د. محمود خليل
تفكيرك يمكن أن يكون عظيماً وأفكارك يمكن أن تكون مفيدة جداً لكن حين تعجز عن إقناع الناس بها فإنها تصبح بلا جدوى أو قيمة حقيقية فى الواقع. فى لحظات العجز أحياناً ما يندفع أصحاب الأفكار أو المؤمنون بمشروعات معينة إلى اتهام المجموع بالجهل وقلة الوعى وقلة الذوق، وقائمة أخرى لا تنتهى من الاتهامات التى تقوم على تسفيه أسلوب تفكير المجموع.
سهل جداً أن تتهم المجموع بالجهل وقائمة النقائص الأخرى، لكن الصعب أن تقنع الناس بجدوى ما تدعو إليه أو تفعله.
زمان كتب أحد كبار مبدعينا -الراحل فتحى غانم- رواية عبقرية اسمها «الجبل» ناقشت إشكالية الصراع بين عقل أهل القرار فى القاهرة ومجموعة من البشر الذين يعيشون فى إحدى القرى التى ترقد فى حضن الجبل بصعيد مصر.
قرر المسئولون فى القاهرة بناء قرية نموذجية تتوافر فيها خدمات إنسانية راقية ونقل سكان قرية «الجرنة» ليعيشوا فيها بعيداً عن العيشة اللاآدمية فى كهوف الجبل.
رفض سكان الجبل النزول إلى البنايات رفضاً قاطعاً، بل والأكثر من ذلك تسلل شبابهم إلى القرية النموذجية الجديدة وحرقوا البنايات ودمروا معدات البناء.
لم يكن من السهل على سكان الكهوف التخلى عن مصدر حلمهم فى الثراء والعيش الكريم عبر كحت الجبل ونبش كل ركن فيه بحثاً عن الآثار وكنوز الأجداد لبيعها لمن يريد والحصول على المال، كما أن أغلبهم لم يكن يرضى أن يتخلى بسهولة عن الحياة البدائية التى ألفها فى حضن الجبل وينزل إلى بيئة لا يتقن العيش فيها داخل القرية النموذجية.
اتهم أهل القاهرة سكان الجبل بالجهل واللصوصية، وأرسلوا من يحقق فى الأمر.
ذهب المحقق إلى مسرح الأزمة وجلس إلى المسئولين داخل القرية النموذجية، وكذلك مع عمدة قرية الجرنة الراقدة فى حضن الجبل وعدد من شبابها والفاعلين فيها.
انتهى الصراع بشكل تلقائى عندما نظر بناة القرية النموذجية إلى ما صنعته أيديهم فوجدوا أن الأربح لهم تحويلها إلى مبانٍ لاستقبال السياح الذين يفدون إلى المنطقة، ودب شجار بينهم حول كيفية تحقيق أعلى ربح منها، بعيداً عن سكان الجبل الجهلاء قليلى الوعى والإدراك.
دب الانقسام بين أصحاب رابطات العنق والياقات المنشاة فظهرت الأسباب الحقيقية الكامنة وراء المشروع. يقول الكاتب فتحى غانم: «ذهب الكلام الأجوف الذى كانوا يتشدقون به عن تحسين حالة الفقراء الذين يعيشون فى الكهوف، وظهرت الأسباب الحقيقية للمشروع.. ربح شخصى أو مجد شخصى».
انتهى الصراع إلى استمرار أهل الجبل فى حياتهم داخل الكهوف ليثبتوا فشل كل مشروع يقوم من أجل أسباب لا صلة لها بالإصلاح الحقيقى، وضرورة أن يكون الإصلاح لمصلحة الذين من أجلهم المشروع الإصلاحى.
رواية «الجبل» تبحث واحدة من الإشكاليات الكبرى التى تواجه جهود التنمية فى دول العالم الثالث ككل، وتؤكد حقيقة إنسانية كبرى ملخصها أن الناس تستجيب للتطوير حين تقتنع، وحين تشعر أن الإصلاح هدفه صالحهم، وبرىء من أى غرض آخر.