بقلم: د. محمود خليل
تجربة نجيب محفوظ فى الكتابة تقدم لنا نموذجاً للكاتب الحر الذى أبى أن يغرد إلا بما يؤمن به، وترفع عن الانحياز إلى أية سلطة، وأنفت نفسه أن يكون من حمَلة المباخر. فانحياز الكاتب الراحل كان للبشر من أهل بلاده. لذا فقد عاش حراً مستقلاً إلا عن محيطه البشرى، الذى اجتهد فى نقل أدق أحساسيه وتفاصيل تفاعلاته مع الحياة وأحداثها، مرات بالتصوير وأخرى بالرسم.
مؤكد أن نجيب محفوظ كانت له قناعاته السياسية، لكنه لم يكن جزءاً من أية سلطة. قبل ثورة يوليو 1952 كان الراحل الكريم من المؤمنين بالفكر الليبرالى، وحق كل إنسان فى أن يكون له رأيه وفكره، وحقه فى التعبير عما يؤمن به. تجد فى كتاباته ما قبل الثورة -مثل الثلاثية- احتفاء واضحاً بحزب الوفد ودوره فى الحياة السياسة فى مصر منذ عام 1919، لكنه كان أميناً فى التعبير عن التحولات التى أعقبت السقوط الجماهيرى للحزب بعد حادثة فبراير 1942 عندما تولى النحاس باشا الحكم على أسنَّة حراب الإنجليز، ووصف ما كان يعتمل فى الشارع من تفاعلات أفرزت تنظيمات جديدة ذات طابع عنيف مثل الإخوان ومصر الفتاة والتنظيمات الشيوعية، وصور الكيفية التى انسجمت بها هذه التنظيمات حينها مع المزاج الشعبى العام الذى أصبح رافضاً للمشهد وكل القوى الفاعلة التى تلعب على مسرح السياسة.
استقلالية نجيب محفوظ كانت تدفعه باستمرار إلى أن يلعب دور «المصوراتى» الذى يحمل «كاميرا» على كتفه، ويجتهد فى نقل مشاهد الواقع بشكل أمين، دون تحريف أو تزييف. لم يهرول «نجيب محفوظ» مثل غيره من المهرولين إلى مجلس قيادة الثورة بعد 1952. كبار الكتاب والأدباء والمفكرين ذهبوا وقدموا التبريكات وعبروا عن الأمنيات الطيبة لأعضاء المجلس، خوفاً أو طمعاً، الله أعلم، لكن نجيب محفوظ لم يذهب إلى أحد، بل وتوقف عن الكتابة لعدة سنوات، ثم عاد إليها ولكن بأدوات جديدة، لا تعتمد على التصوير، بل على الرسم.
العديد من روايات نجيب محفوظ خلال الستينات وجزء من السبعينات، اعتمدت على الترميز التاريخى والدينى والإنسانى، جسَّد الاستبداد فى صورة الفتوة، والشعب فى صورة الحرافيش التى لا تهتدى إلى مكامن قوتها إلا فى لحظات محدودة من عمر الحياة. رسم رحلة الإنسان فى البحث عن العدل والحياة المثالية فى «أولاد حارتنا»، وصور الإنسان الحائر فى البحث عن طريق للخلاص فى رواية «الطريق». ورسم صورة الإرهابى فى قصة «التنظيم السرى»، وصورة الانتهازى المتسلق نبت الانفتاح فى «أهل القمة».
كتابات نجيب محفوظ كانت تتراوح بين التصوير والرسم. فعندما كانت الظروف تتيح له أن يقول ما يريد، كان ينقل صور الواقع بأمانة، ويفصل بدقة كيف تفاعل وانفعل المصريون بأحداثه. ترى ذلك واضحاً فى رواية «باقى من الزمن ساعة» التى يصف أحد أبطالها الأوضاع أواخر الستينات وأوائل السبعينات قائلاً: «لقد تحولنا إلى مرحاض عمومى كبير». وعندما كانت تضيق عليه سبل التعبير كان يلجأ إلى الرمز ورسم الصور، مثلما فعل فى «الحرافيش».
رحم الله نجيب محفوظ.. الذى تمر هذه الأيام الذكرى الـ14 لوفاته.