بقلم : محمود خليل
فى صباح يوم 23 يوليو 1952، استيقظ الأداهم على صوت البكباشى محمد أنور السادات يتلو عليهم بيان «الحركة المباركة». «الأداهم» بطبيعتهم يحبون «البركة» وكل مشتقاتها: مبروك ومبارك ومباركة. حينذاك كانت عبارة «اسمع يا مبارك» أكثر عبارة تتردد على لسان الأدهم من هؤلاء وهو يخاطب أخاه الأدهم. عبارة «الحركة المباركة» كان لها وقع طيب على الأذن الأدهمية، وتأمّل الكثيرون منها خيراً، خصوصاً حين استمعوا إلى «السادات» وهو يقول: «اجتازت مصر فترة عصيبة فى تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبّب المرتشون والمغرضون فى هزيمتنا فى حرب فلسطين. وأما فترة ما بعد الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل أو خائن أو فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها».
عبارة الحركة المباركة التى أعلن الضباط الأحرار القيام بها كانت تشى بمحاولة «إصلاح من الداخل». هكذا استقبلت العقلية الأدهمية الحدث، ويبدو أن الذاكرة لم تكن قد نسيت بعد «عرابى ورفاقه»، فقد حاول هذا الفلاح الأدهمى أن يصلح النظام من داخله، حيث كان يتعامل بمستوى واضح من الإجلال والاعتبار مع سلطة الخديو توفيق، ورغم ما قيل من أن «عرابى» حاول التخلص من الحكم الخديوى وإقامة جمهورية، فإن عدم وجود أدلة تاريخية موثقة تقطع الطريق على هذه الفكرة. تأكد «الأداهم» من أن الحركة المباركة عازمة على الإصلاح من داخل النظام عندما بادر الضباط الأحرار إلى الاستعانة بعلى باشا ماهر كرئيس للوزراء، والعلاقة بين الملك فاروق و«ماهر» كانت من المتانة بشكل لا يخفى على أحد.
وضْع «الأداهم» خلال العقدين السابقين للثورة كان وضع معاناة ولا شك، لكنها لم تكن معاناة قاتلة. كان المجتمع طبقياً ويحوز الكتلة الأكبر من الأرض الزراعية، فيه عدد محدود من الملاك، لكن «الأداهم الصغار» كان لديهم زرع وضرع. وقد ذكرت لك أن عدد ملاك الأرض الزراعية فى مصر (6 ملايين فدان) كان يبلغ 2.7 مليون شخص، لكن 2.3 منهم كانوا يملكون ما بين نصف فدان إلى فدانين أو ثلاثة فدادين. والـ2.7 مليون هؤلاء كانوا يشكلون نسبة 15% من سكان المحروسة (48 مليون نسمة عام 1947). كانت فرص الثراء قائمة أيضاً بالنسبة للعمال والتجار، وكانت هناك مساحة لصعود أداهم الريف المصرى إلى مراتب عالية فى المجتمع القاهرى، ولا أجدنى بحاجة إلى تعداد أسماء لرموز سياسية وفكرية وأدبية وإصلاحية خرجت من رحم ريفنا الطيب وأفسح لها المجال للعمل. كما لا أجدنى فى حاجة إلى تكرار ما تعرفه عن الحركة الفنية والفكرية والصحفية والسياسية خلال هذه الفترة، لكن يبقى أن «الأداهم» العاديين كانوا يعانون مشكلة مع نظام حكم «فاروق» وآبائه.
جوهر مشكلة الكثير من الأداهم مع عهد «فاروق» تمثل فى سيطرة حفنة قليلة من البشر (5%) على النسبة الغالبة من خيرات مصر، فى حين أن الأغلبية (95%) كانت تعانى بأشكال ودرجات مختلفة. وقد وجدت هذه الأغلبية الكبيرة أملاً فى الحركة المباركة، خصوصاً أن الضباط ممن قاموا بها ينتمون إلى شرائح الطبقة الوسطى من المصريين، باستثناء واحد منهم كان خاله محمد حيدر باشا وزير الحربية، وهو عبدالحكيم عامر.