بقلم: د. محمود خليل
الشارع السودانى منقسم حول مسألة تسليم الرئيس السودانى السابق عمر البشير إلى محكمة العدل الدولية فى «لاهاى» لمعاقبته على جرائم ضد الإنسانية ارتكبها فى نواحٍ عدة من السودان، أدت إلى مقتل مئات الآلاف من البشر وتشريد الملايين. هناك من يؤيد الخطوة انطلاقاً من أن «البشير» لا بد أن يخضع لمحاكمة جادة على الجرائم المتهم فيها، والجدية لن تتحقق إذا حوكم داخل السودان، فى حين يرى اتجاه آخر داخل الشارع السودانى أن محاكمة «البشير» فى السودان تأكيد على استقلالية الدولة ومؤسساتها، وكذا تأكيد على كيانها وهيبتها.
الشارع الشعبى كالعادة «يأخذ الموضوع على صدره» ويحمله ما يمكن تحميله من مفردات تتردد فى مثل هذه المواقف. فالمؤيدون يرددون ألفاظ الحق والعدل ومقاضاة المسئول عن الدم المسفوح، والأسر التى تشردت، وغير ذلك. والمعارضون يرددون ألفاظاً من فصيلة الاستقلالية والهيبة وكرامة المؤسسات وخلافه. وفى ظنى أن المسألة أبعد من ذلك. فتسليم «البشير» يتم ضمن صفقة يرعاها المجلس السيادى فى السودان، وفى إطار مجموعة من الترتيبات مع الطرف الأمريكى على وجه الخصوص. الدليل على ذلك أن السودان وافق على تسليم «البشير» بالترافق مع الإعلان عن توقيع اتفاق فى «واشنطن» بين الحكومة السودانية وأسر ضحايا تفجير المدمرة كول التى تعرضت لهجوم قبالة ميناء عدن اليمنى عام 2000. ويقضى الاتفاق بأن يدفع السودان التعويضات المطلوبة لأسر الضحايا. يذكر أن التفجير أسفر عن مقتل 17 بحاراً أمريكياً. وقد ظل السودان طيلة العقدين الماضيين ينفى أى صلة له بهذا التفجير. وليس هناك خلاف على أن القبول بدفع التعويضات يعنى اعترافاً ضمنياً بالتورط فى الواقعة.
وقد يكون من المفيد أن نذكّر أيضاً بأن خطوتى الموافقة على دفع التعويضات لضحايا المدمرة كول، ثم الموافقة على تسليم «البشير» إلى «الجنائية الدولية» جاءتا عقب اللقاء الذى تم بين كل من عبدالفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادى السودانى، وبنيامين نتنياهو بأوغندا منذ ما يقرب من أسبوعين. ويعنى ذلك أن ثمة ترتيبات تتم هدفها الأساسى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بما يترتب عليه من رفع للعقوبات الأمريكية عليه. ولنا أن نتساءل: هل اتخذ المسئولون السودانيون هذه الخطوات بناء على نصائح إسرائيلية؟. الأيام القادمة وما ستشهده من أحداث قد تحمل إجابة واضحة على هذا السؤال، لكن يبقى أن من يقف وراء هذه الخطوات داخل المجلس السودانى يرتب بالأساس لأمر الحكم، ويتعامل كما ذكرت لك منذ يومين بنفس المنطق القديم الذى سيطر على الرأس السياسى العربى منذ زمن طويل من أن الترتيب مع الطرفين الأمريكى/ الإسرائيلى يعد خطوة لازمة وضرورية لتحقيق مثل هذا الهدف.
الشارع السودانى -شأنه شأن الشوارع العربية الأخرى- يحكمه الحماس وينسجم مع فكرة الشعارات الكبرى، لكن أمر السياسة غير ذلك، والحيل التى يتبعها المتنافسون السياسيون لا تأخذ فى الاعتبار الكلمات الكبيرة التى تتردد فى الشارع، لأن تحقيق الأهداف فى مثل هذه الأحوال تحكمه القاعدة الميكيافيلية الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة». ليت السودانيين ينتبهون!.