بقلم: د. محمود خليل
كان الرئيس السادات -رحمه الله- كثير الحديث عن روح أكتوبر ويدعو إلى استدعائها لاستنفار قدرات المصريين على مواجهة ما يلوح لهم من تحديات نهضوية. حاول «مبارك» من بعده استخدام العبارة نفسها فى بعض أحاديثه إلى الناس، لكن الأمر لم يكن يعدو التذكير بمصدر شرعيته، والمتمثل فى الانتماء إلى الجيل الذى صنع نصر أكتوبر. وهو الانتماء الذى استند إليه السادات فى اختياره لمبارك كنائب له عام 1975.
ماذا كان يعنى السادات بروح أكتوبر؟ من عاصر هذه الفترة يعلم أن الرئيس كان يقصد بها الحالة التى تلبست المصريين بعد نكسة 1967 برفض الهزيمة وعدم الاستسلام للأمر الواقع، والسعى إلى القفز على آلامهم وأوجاعهم، والاجتهاد فى البناء فى ظروف غير مواتية ووسط غابة من الحزن والإحباط. روح أكتوبر كانت تعنى باختصار «القفز».. القفز فوق الهزيمة.. فوق الضعف.. فوق الواقع المعاند.. فوق الفروق فى المعطيات المتاحة للذات والمتوافرة للخصم.. القفز والعبور على كل ذلك واستجلاب النصر من قلب المستحيل.
هذه المعانى لمسها الجيل الذى عاش هذه الفترة وكان يراها تتجسد أمامه من دم ولحم.. ثم اختفت هذه الروح بعد ذلك، ومكث السادات يناديها فى الشعب، وطال نداؤه ولم يعد إليه إلا الصدى!.. فمتى وأين اختفت «روح أكتوبر»؟
عاش المصريون بعد النصر المجيد فى 1973 أحاسيس متنوعة امتزج فيها الشعور باسترداد الكرامة، مع استعادة الثقة بالنفس، مع إحساس القدرة على الفعل. بدأت صدور المصريين تتنسم الهواء من جديد وتعد العدة لمستقبل يبنون فيه دولة قوية بحريتها وديمقراطيتها وقدراتها الاقتصادية والعسكرية، لكن ماء كثيراً جرى فى نهر حياة المصريين بعد ذلك.
الإحساس الذى تشكل فى صدور المصريين بعد النصر بدأ يذوى ويضمحل بداخلهم شيئاً فشيئاً بمرور الأيام. بدأ يذوى حين شعر الجنود الذى قدموا ضريبة الدم من أجل تحرير الأرض بثمار النصر تسقط فى حجر أناس لم يكن لهم فيه ناقة ولا جمل. بدأ يذوى حين أحس الشعب الذى صمد وتحمل المصاعب الاقتصادية العنيفة بأن معيشته تزداد تعقيداً بفعل الشعور بالعجز عن توفير المأكل والمشرب والملبس والمسكن بسبب تغول الانفتاح والانفتاحيين. بدأ يذوى حين اكتشف الناس أن هامش الديمقراطية الذى أتاحه السادات لم يكن أكثر من وهم استفاد منه قوى المعارضة التى تعمل فى معية السلطة، خصوصاً من الإسلاميين.
كل يوم يمر كان يأخذ معه قطعة من روح أكتوبر التى تفجرت فى نفوس المصريين أيام الحرب، حتى تلاشت وتبخرت فى الهواء، وأصبحت مجرد ذكرى ترتبط بعبارة تعلو الأصوات بالنداء عليها دون أن تجيب أحداً.
جاء الإعلان الشعبى عن صعود روح أكتوبر إلى بارئها فى أحداث يناير 1977 والتى سارت بعدها السلطة فى وادٍ والشعب فى واد آخر، وظلت الأمور كذلك حتى صعدت روح الشهيد السادات إلى خالقها فى الاحتفال بذكرى أكتوبر (1981)، ليتبخر آخر شعاع كان قادراً على استحضار تلك الروح.. وكل «روح أكتوبر» وأنتم طيبون.