بقلم: د. محمود خليل
الطموح شىء والتطلع شىء آخر. الطموح يعنى السعى نحو الحصول على الأهداف بالثمن المطلوب من الجهد والاجتهاد، وهو فى كل الأحوال جدير بالإعجاب والتشجيع والتحفيز، وترسخه داخل مجتمع معين يعنى نجاحه وتقدمه إلى مواقع الريادة على مستوى العالم. أما التطلع فداء قد يضرب أصحاب النفوذ أو أصحاب المال أو الأفراد العاديين. ولم يهلك مجتمعنا داء مثلما أهلكه التطلع. فالكل يريد والكل يرغب، ولا أحد يكتفى، والجميع يرفع شعار «هل من مزيد؟»، ويكرر المثل الشعبى السائر «البحر يحب الزيادة». التطلع هو المدخل الطبيعى للفساد والإفساد. بعض الأسماء اللامعة فى مجتمعنا لم تُقدم نظرية فى حل مشكلاتنا، أو اختراعاً يحقق الملايين أو المليارات، أو رؤية إصلاحية تنقل المجتمع من حال إلى حال. فكل قدراتهم تتلخص فى الشطارة والقدرة على الحصول على المال بالفهلوة، والاحتكار، واستغلال النفوذ، والضحك على ذقون البشر، بالإضافة إلى أساليب أخرى.
أما الاجتهاد الحقيقى، والمكسب الطبيعى الناتج عنه، والاهتمام بالمصلحة الفردية بالتوازى مع المصلحة الجماعية، فهذه المعانى تكاد تختفى من قاموسنا. يستوى فى ذلك رجل الأعمال الذى جنى المليارات، دون اجتهاد حقيقى، والشاب الصغير الذى تخرج فى الجامعة ويحلم بأن يحصل على السيارة الفارهة، والفيلا المبهرة، والمرأة الرائعة، واللبس على أحدث صيحات الموضة، وهو لا يريد أن يبذل جهداً أو وقتاً، بل يرغب فى تحقيق ذلك بمنتهى السرعة عبر آليات الفهلوة والشطارة «والحداقة».
لذلك فقد تحوَّلنا إلى مجتمع يمكن أن تصل فيه إلى المال بلا عمل أو اجتهاد، وأن تمتلك سلطة بلا قوة أو قدرة على التغيير، وشهادة بلا علم، وعلم بلا عمل، وعمل بلا نتيجة. وسيطر التعب والإرهاق والإحباط والزهق على الناس كافة. ولم يعد أمام الجميع سوى التخلص من تلك اللعنة، لعنة «التطلُّع»، والفهم العميق لمعنى وجود الإنسان فى الحياة، وهو المعنى الذى لخصه القرآن الكريم فى مفهوم السعى «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى». لا بد أن يفرز هذا المجتمع رجال اقتصاد يحصلون على المال بأعمال حقيقية، ورجال دولة يفهمون أن العمل السياسى هو سعى نحو التغيير والإصلاح، ومثقفين قادرين على مواجهة الناس بالحقيقة، وشعباً يفهم قيمة العمل والاجتهاد، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
مجتمعنا يحتاج إلى فكر جديد يؤسس لثقافة جديدة تستجيب لجملة المشكلات التى نواجهها، نحتاج إلى الخروج من شرنقة الأفكار النمطية والمكررة، ثقافة تأخذ أفضل ما فى الماضى وتطوره، وأفضل ما فى العالم المعاصر وتمصره. ثقافة لا تعتمد على الأحكام المطلقة بل تحتكم إلى نظرة نسبية للأشياء، وتحتكم إلى مفهوم «الجدوى» كأساس للقبول أو الرفض. ثقافة تقوم على الشفافية والصراحة والمكاشفة، وليس على الكتمان أو التعتيم أو المراوغة. ثقافة تُعلى من قيمة المشاركة، وترفض الاستفراد أو الاستئثار أو الاحتكار. ثقافة تحترم الطموح وتدفع صاحبه إلى الأمام، وتعالج أمراض التطلع وتمحو كلمة الفهلوة من قاموس حياتنا.