بقلم: د. محمود خليل
قصة المسلمين فى الأندلس قصة ممتدة تختلط فيها الحقائق بالأساطير، والمعلومات الدقيقة بالخيالات الشعبية.
والأصل فى هذه المسألة يرتبط بحالة الحسرة التى ضربت أفئدة المسلمين بعد سقوط الأندلس، عقب عقود مديدة من سيطرة الفاتحين العرب عليها.
بدأت رحلة فتح الأندلس حلماً فى عقل موسى بن نصير، فى عهد الخليفة الأموى الوليد بن عبدالملك، وبعد أن درس «ابن نصير» المسألة من كل زواياها، أعد جيشاً اختار له قائداً غير عادى فى تاريخ الفكر العسكرى، هو «طارق بن زياد».
كان قوام جيش الفاتح طارق بن زياد 12 ألف مقاتل، وهو ليس بالعدد القليل أو الهين، خصوصاً أن النسبة الغالبة منه كانت من البربر، لكن العقل الشعبى اخترع واحدة من أكبر القصص الخالدات فى الوجدان العام، وهى قصة حرق السفن التى أبحر بها جيش الفاتحين إلى الأندلس، وخطبته فى جنوده قائلاً: «أيها الناس.. أين المفر؟. والبحر من ورائكم والعدو أمامكم».
واقع الحال أنه لم يكن هناك داعٍ كى يردد طارق بن زياد هذه المقولة، فقد كان معه من الجند ما يكفى، ومن العدة ما يغنى، وكان موسى بن نصير يسيطر على شمال أفريقيا، ويملك أن يمده بما يريد من عون، كما أن خطوة الفتح تمت دراستها بتأنٍ، ووضعت لها خطة دقيقة، لكن يبدو أن الإعجاب الشعبى ببطولة القائد العظيم طارق بن زياد كانت دافعاً وراء تأليف قصة الخطبة.
وكذا الشعوب دائماً عندما يحقق قائد من قوادها بطولة تطلق لخيالها الشعبى العنان لتؤلف ما يؤكد بطولته داخل وجدانها. وقد كان طارق بن زياد بالفعل قائداً عسكرياً محنكاً تمكن من القيام بهذه المهمة الصعبة، وفتح هذا البلد الذى ضاع بعد ذلك على يد واحد من «البكائين» فى مواقف لا يليق فيها البكاء وهو «أبو عبدالله الصغير».
«أبو عبدالله الصغير» ابن عائشة الحرة زوجة الأمير «أبوالحسن»، وكانت سلطانة على مملكة «غرناطة»، ورزقت من زوجها بولدين، أحدهما «أبو عبدالله الصغير» آخر ملوك الأندلس. وقد شهدت فى حياتها زوال ملك المسلمين على هذه الأرض، بسبب ممارسات زوجها، والصراعات العارمة التى نشبت بين أصحاب المصالح فى الأندلس، ومكائد ودسائس الطامعين فى القضاء على حكم المسلمين لها.
امتازت «عائشة» بشخصية قوية عاقلة ورزينة، لكن نقطة ضعفها كانت فى الرجال الذين أحاطوا بها، سواء زوجها الذى فتنته أسيرة مسيحية، فتزوجها وذاب عشقاً فيها، وولدها عبدالله الذى لم يكن يمتلك القدرة على الحفاظ على ملك أحاطت به الذئاب من جميع الجهات.
حاولت السلطانة الحرة قدر جهدها دفع شبح السقوط عن الحكم الإسلامى فى الأندلس، لكن أوان سقوط الدولة كان قد حان، حين وصلت إلى مرحلة لم تعد تمتلك فيها صلاحية الاستمرار.
انهار حكم ملوك المسلمين فى لحظة وقف فيها «أبو عبدالله الصغير» يبكى على الملك الزائل والمجد الحائل، فنظرت إليه أمه ورددت فى وجهه العبارة التى تقول: «ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال».
من جديد لا يستطيع المحلل أن يبرئ الخيال الشعبى من اختراع هذه المقولة ليعبر عن حجم المأساة التى حاقت بالمسلمين جراء هذا الحدث، ومدى الحسرة والحزن الذى اعتصر قلوبهم بعد السقوط المدوى للأندلس، لكن العبارة تبقى فى كل الأحوال شاهداً على ذلك النمط من الشخصيات من «طلاب الحكم والمجد» الذين تنسال دموعهم عندما يركبون الصعب، وليس لمن يطلب مثل ما يطلبون أن يبكى.