بقلم: د. محمود خليل
كثيراً ما أقف متأملاً أمام المعنى الإنسانى البديع الذى يحمله الحديث النبوى الشريف الذى يقول «إن المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».
هذه الحكمة العميقة جاءت فى سياق حديث النبى صلى الله عليه وسلم عن يُسر الإسلام كعقيدة إنسانية تقدِّر ضعف الإنسان وتنهاه عن الغلو والمبالغة وتنصحه بالرفق بنفسه وغيره فى جميع الأمور والمواقف.
يوضح المفسرون معنى «المنبَتّ» ويقولون إنه الإنسان الذى انقطع به السبيل. تعافى على نفسه وعلى الراحلة التى يمتطيها وأراد أن يقطع مسيرة أسبوعين فى 10 أيام، فضغط على نفسه ولم يرحم جسده فواصل الليل بالنهار، وأرهق راحلته وتعسف معها حتى تقطع الطريق بسرعة أكبر، وبعد حين بلغ الإرهاق بها مبلغه، نخت الراحلة وبركت به على الأرض، وأصبحت عاجزة عن السير.
والنتيجة أنه لم يبلغ مقصده، ولم يستطع الوصول إلى حيث أراد الذهاب، وفى الوقت نفسه لم يعد أمامه سبيل إلى العودة إلى نقطة انطلاقه، لأن الراحلة باتت عاجزة عن السير.. أصبح مقطوعاً.
المنبت إذن هو الإنسان «المقطوع». ولو أنك فتشت من حولك فستجد نماذج متنوعة لهؤلاء المقاطيع فى الحياة العادية وفى دنيا النجوم.
فى الحياة العادية ستجد نماذج لأشخاص ضحكت لهم الدنيا فجأة، فاستجدت ظروف دفعت بأحدهم إلى منصب كبير، أو وظيفة مرموقة ذات مرتب خيالى، أو ربح فى تجارة لم يكن يتوقعه، أو غير ذلك، فتجده يهرول إلى «شقلبة» حياته، فيزهد فى بيت عاش فيه ويطمح إلى «فيلا» أو «قصر»، وتعاف نفسه السيارة التى يركبها، ويطمع فى سيارات «الكعب العالى»، ويخرج أبناءه من المدارس متوسطة المصروفات ويلحقهم بمدارس «ولاد الأكابر».
يظل يجرى ويجرى فى سوق «المتعة والإنفاق» حتى يفرغ جيبه. فلا يستطيع أن يصل إلى «الفيلا» أو «القصر» الذى دفع مقدمة ثمنه، ثم عجز عن تسديد الأقساط، وأصبح غير قادر على امتطاء سيارة «الكعب العالى» التى عجز أيضاً عن تسديد أقساطها أيضاً، وقِس على ذلك ما تبقى من بنود إنفاقه.
الدنيا كما تضحك تغضب، وكما تُعطى تأخذ، وكما تيسر الظرف الذى يهيِّئ للصعود، تتقلب أحوالها لتزلزل حياة الإنسان بظرف صعب معاند، يصبح معه الإنسان عاجزاً عن بلوغ قصده أو العودة إلى النقطة التى انطلق منها، فيمسى بلا ظهير.
بإمكانك أيضاً أن تراجع حياة النجوم وستجد نماذج أخرى متنوعة لهؤلاء المقاطيع. أشخاص كانوا بالأمس ملء السمع والبصر، يتكلمون وحدهم، وإذا تكلم غيرهم أمطروه بوابل من القذائف الكلامية، وهددوه بالويل والثبور وأعاظم الأمور، وقدموا أنفسهم على أنهم أصحاب مكانة وحصانة تجعلهم فوق المساءلة.
أحدهم عادى الناس جميعاً، ولم يترك لنفسه خط رجعة مع أحد، وشعر فى لحظة من اللحظات بأنه فوق الجميع، ثم تقلبت الدنيا به، ففقد المكانة والحصانة، وتقلبت الظروف وأعطته الدنيا قفاها، وقلبت له وجهها، فأصبح «كبير المقاطيع» المنبَتّين، الذين لا يملكون السير للأمام خطوة، وليس فى مكنتهم العودة إلى حيث بدأوا.. وأصبحوا يدندنون مع عبدالحليم حافظ الجملة النزارية الرائعة: «لو أنى أعرف خاتمتى ما كنت بدأت».
كذلك يغنى "كبير المقاطيع"!