بقلم : محمود خليل
بانتهاء الحرب العالمية الثانية انتهت أسطورة «بريطانيا العظمى»، فقد لاح فى الأفق دولة أعظم تمكّنت من حسم الحرب، وهى الولايات المتحدة الأمريكية. كثير من الأداهم المصريين الذين انقسموا بين الرهان على الإنجليز والرهان على الألمان بعد الحرب خرجوا خاسرين.
قلة قليلة هى التى كانت تدرك خطورة الدور الذى سوف تلعبه القوة الصاعدة الآتية من العالم الجديد. يشير فتحى غانم فى روايته «زينب والعرش» إلى أن بعض رجال الأعمال المصريين كانوا وحدهم الواعين بهذا الجديد الوافد.
يصف «غانم» أن أحدهم، «أحمد باشا مدكور»، استدعى «عبدالهادى النجار»، الصحفى الشهير حينذاك، واتفق معه على إصدار جريدة «العصر الجديد» لتعبّر، كما يشير اسمها، عن العصر الأمريكى الجديد الذى بدأ مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد كان دقيقاً فى اختيار «النجار» للنهوض بالمهمة، وكان يفهم أن تركيبته تساعد على تحقيق الهدف.
عبدالهادى النجار فى الأصل فلاح عانى مع أسرته من كل ما عانى منه أداهم الفلاحين البسطاء، كان ضعيفاً ويعلم أنه ضعيف، لكنه فى الوقت نفسه طموح للتحليق بعيداً عن طين الفلاحين والطيران مع طبقة الأعيان، وحاصل جمع الطموح مع ضعف القدرات يساوى «الانتهازية»، وقد كان «النجار» انتهازياً حتى النخاع، وحمل مع الانتهازية سمة أخرى نتجت عنها، تمثلت فى «قلة الأصل».
فقد كان رمزاً معبّراً عن النخبة الأدهمية الريفية التى تمكنت من اعتلاء عدد من منصات الحكم داخل العاصمة، وتمتعت بقدر واضح من «النذالة» مع أبناء جلدتها من الأداهم. يرسم فتحى «غانم» فى «زينب والعرش» صورة لاحتقار عبدالهادى للفلاحين بعد أن أصبح رئيس تحرير.
يقول «غانم»: «وتعددت الأزياء واللهجات والأعمار فى صالون عبدالهادى ما عدا فئة واحدة قاومها ولم يرحب بها فى مجلسه وهم الفلاحون، فأحياناً ما كانت تأتى له وفود منهم فكان يتهرب منهم، وكان لا يستطيع أن يمنع نفسه من السخرية بمن يجده فى مجلسه محتفظاً بلهجة الفلاحين أو متحدثاً عنهم مبدياً بعض الاهتمام أو العطف نحوهم».
سأل يوسف منصور -أحد أبطال الرواية- «النجار» عن سر كراهيته للفلاحين، فرد عليه: «أكرههم لأنى أكره الفقر والجهل والمرض.. ألم تقرأ برنارد شو الذى وصف الفقراء بأنهم ألعن وأخبث شىء فى الوجود.. مشوهون.. وإذا تعاملت معهم ستصبح مشوهاً مثلهم.. ولقد عشت بينهم زمناً.. ولكنى نجوت بمعجزة».
كان «عبدالهادى النجار» يعترف بأن أمه وأباه وكافة أقاربه من الفلاحين، لكن ذلك لم يمنعه من احتقار «جنس الفلاح». كان يدبج قصائد الغزل فى أداهم الفلاحين ويدافع عن حقوقهم على الورق فقط، لكنه كان يصطف مع الأعيان فى الواقع، لأن المصالح غلابة، مثلها مثل الهوى.
«النجار» كان نصيراً للفلاحين على الورق، وعندما كان يجد أن الأفيد له أن يعلن أنه فلاح ابن فلاح لم يكن يتردد فى ذلك ليتاجر بأصله الذى كان يتبرأ منه تحقيقاً لمصالحه، وينسى ما زعمه أمام «يوسف منصور» من أن كراهيته للفلاحين مردها عقدة نفسية.