بقلم : محمود خليل
الانهيار الثقافى حالة تصيب المجتمعات عندما تتردى المعانى التى تحملها الأعمال الفكرية والفنية والغنائية، وتسوء لغة الخطاب العام وتجنح إلى السوقية فى التعبير عن الرأى أو الفكرة أو الحوار مع الآخر. تردى المعانى وسوء اللغة وسوقيتها تؤدى فى مرحلة تالية إلى تسميم الوجدان العام، فتختل القيم وترتبك، ويفسد الذوق العام. ما يصفه البعض اليوم بحالة «انهيار ثقافى» ليس وليد اللحظة المعيشة، بل نتيجة لمجموعة من المقدمات التى تراكمت عبر عقود طويلة من الزمن.
خلال الفترة التى سبقت قيام ثورة يوليو كانت الساحة تتزاحم بالعديد من الأسماء فى دنيا الفكر والفن والأدب الجديرة بوصف مثقفين. يستوى فى ذلك أسماء فى دنيا الأدب والفكر، مع أسماء فى دنيا السينما والمسرح، مع أسماء فى دنيا الغناء. الملمح الثقافى كان الملمح الأبرز الذى يجمع تحت مظلته كل صنّاع المنتجات الفكرية والفنية والإبداعية. تواصلت هذه الظاهرة وامتدت خلال فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، ولكن مع بعض التغيير، فقد أصبح المثقف أشد قرباً من السلطة مما كان عليه حاله قبل الثورة، وأصبحت السلطة حريصة على ترويض الكثير من الأسماء لتقوم ببروزة إنجازاتها وتبنِّى مواقفها إذا اقتضت الحاجة ذلك. زاد بعد الثورة أيضاً نسب المساحات التى يحتلها المثقف العامل فى حقل الصحافة، مثل هيكل وفتحى غانم وصلاح حافظ وأنيس منصور وموسى صبرى وغيرهم، على حساب رموز الأدب والفكر. اهتمت مصر عبدالناصر أيضاً بالثقافة الجماهيرية، وكان جهدها فى هذا السياق واضحاً وملموساً.
اختلفت أمور عديدة فى دنيا الثقافة والفن أواخر عقد السبعينات وخلال عقد الثمانينات، فمن يراجع الأعمال السينمائية والدرامية التى احتضنتها هذه الفترة سيلاحظ أن المثقف كان يقدم فى صورة الشخص المعقد نفسياً، مثل مسلسل «أديب» عن قصة الدكتور طه حسين، أو فيلم «قلب الليل» عن قصة لنجيب محفوظ. وإرضاء للغضب الساداتى على المثقف اليسارى تعمدت العديد من الأفلام تشويه صورته وتقديمه فى صورة الشخص الانتهازى «المبهدل» المثير للضحك، يظهر ذلك على سبيل المثال فى الفيلم التليفزيونى «فوزية البورجوازية».
كل عام كان يمر منذ التسعينات من القرن الماضى كان دور المثقف أو صاحب العلم والمعرفة يتراجع خطوة إلى الوراء ليترك المساحة للجهلة وأنصاف المتعلمين ومحدودى الموهبة. بدأ منحنى الإبداع الفكرى والفنى والأدبى والغنائى يغوص أكثر فى الرداءة. وبمرور الوقت أصبحت القاعدة: كلما كنت رديئاً زادت جماهيريتك وتوسعت وتمددت. وكانت النتيجة ظهور نوعية من الفنانين والمغنين وبعض من يزعمون أنهم ينتجون فكراً أو أدباً من فصيلة خاصة. ومع تعطل دور المثقفين الحقيقيين -أو قل تهميشهم- ارتفعت معدلات الطلب على الرداءة، لأسباب أوضحتها فى كتابات سابقة، وكانت النتيجة أن تمكّن المحدودون ومتواضعو المستوى من احتلال مساحات كبيرة على ساحة الحياة. ويردد البعض أن الجمهور هو الذى منحهم هذه المساحة، وبالتالى فعلى المؤمنين بالديمقراطية أن يحترموا حق الجمهور فى الاختيار.
يحكى البعض أن الفنان محمود شكوكو تحدى الأديب الكبير عباس العقاد بأنه لو نزل ميدان التحرير مع العقاد فسيتكاثر الناس عليه ويتركون الأديب والمفكر الكبير، فرد عليه العقاد بأنه لو اصطحب معه راقصة فسوف يتركون شكوكو ويتكاثرون حول الراقصة. بغض النظر عن دقة الحكاية والحديث عن جانب الصدق والتلفيق فيها، فإنها تصلح للرد على حديث البعض حول أن الجماهيرية تمنح القيمة. من ينتصرون للرداءة بإمكانهم منافسة من يدافعون عنهم بأى افتكاسة أو تخريفة أو بلبصة أو خلبصة. رحم الله صلاح جاهين حين قال: «بلياتشو قال إيه بس لزمة فنونى.. وتلات وِقَق مساحيق بيلوّنونى.. والطبل والمزامير وكتر الجعير.. إذا جنون زبونى زاد عن جنونى.. عجبى».