يتحور البشر لكنهم لا يتغيرون. فطبيعتهم الأساسية الميالة إلى التعصب والتطرف تكاد تكون ثابتة.
مات هتلر فى ألمانيا لكنه تحور فى مئات «الهتالر» الجدد الذين ينادون مثلما نادى بتنقية العرق الأبيض ومعاداة غيره ونبذه، بل والتخلص الكامل منه إذا أتيحت الفرصة.
مات الآباء المؤسسون لتميز «العرق الأبيض» على «السود» فى الولايات المتحدة الأمريكية، لكنهم تحوروا فى آلاف اليمينيين المتطرفين الذين ينادون بالفكرة ذاتها، وودوا لو عادوا بالزمن إلى الوراء ليستبد السيد الأبيض بالعبد الأفريقى ويسومه سوء العذاب.
فى الشرق مات أصحاب البيوت الكبيرة من التجار والأعيان، تلك البيوت التى كانت تحتشد بجوارى القوقاز والعبيد والإماء من الأفارقة، لكنهم تحوروا فى سادة مال جدد يتزاحم فى بيوتهم الخدم والحشم والعبيد والإماء الذين تم استيرادهم بالمال ليعيدوا بناء المشاهد القديمة فى بيوت المماليك.
الإنسان يتحور لكنه لا يتغير، لأنه يعيش أسير فكرة.
البشر تجرى عليهم جميعاً سنة الموت، فيؤويهم التراب فى نهاية الرحلة، لكن الأفكار لا تموت، إنها مثل العنقاء، التى تختفى فى التراب فجأة، لكنها تظل تتلوى حتى تطل بوجهها من جديد ما وجدت الظرف المواتى والمناخ المناسب للظهور.
وقد أتاحت التكنولوجيا الحديثة التى يسرت للبشر التواصل السهل السريع العابر لحدود الزمان والمكان فرصة لتداول أفكار عديدة كان يظن الناس أن النسيان قد طواها فيما طوى.
على موائد التواصل الاجتماعى أصبحت وجبات التعصب والتطرف والانغلاق على الفكرة المتداولة داخل المجموعة «تعيينا» أساسياً يلتهمه الأفراد على مدار الـ24 ساعة.
ترتكز هذه المواقع على فكرة «المجموعة المغلقة» على أعضائها وعلى ما يؤمنون به من أفكار. والانغلاق يحول دون المجموعة والتفاعل مع أفكار غيرها من المجموعات، بل على العكس يشعل نار الغضب ضد الأفكار المخالفة.
هذه الفكرة المخالفة قد تكون عقيدة أو فهماً لعقيدة أو رأياً سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو تعليمياً أو إنسانياً أو خلافه، يرفض أفراد المجموعة استقباله أو مناقشته، لأنهم يعتبرون مجموعتهم «نادى أصحاب الحقيقة». فهم وحدهم الذين يمتلكون الحقيقة ورأيهم هو الصحيح، وغيرهم يهذى أو «يهرتل»، وبالتالى فعلى من يستمع إلى الآخر الاستعانة بما لديه من مخزون شمعى ليصم به أذنه عن الاستقبال.
التعصب الأعمى للفكرة والمصادرة الشمعية على المخالفين لها هو السبب فى نفور «عرق السيادة» على الشخص، ليستدعى من متاحف التاريخ أكثر الأفكار رداءة وأشد التجارب الإنسانية سوءاً ليجعل منها قاعدة ووقوداً لتعصبه.
الديمقراطية التى تعتمد على مبدأ التعددية والتنوع ما بين البشر، مع المساواة بينهم فى الحقوق، تشكل الأساس الذى قامت عليه الدولة الحديثة.
الحرب الأساسية التى يخوضها اليمين المتطرف فى الغرب والشرق هى «حرب ضد الديمقراطية»، يحدث ذلك حتى فى الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر دول العالم رسوخاً فى الإيمان بحق الشعب فى الاختيار.
والبديل الذى يحلم به اليمينيون المتطرفون دولة تقوم على فكرة سيادة عرق أو دين أو لغة أو مؤسسة أو جماعة على ما عداها، دولة يحكمها «السادة» ويرضخ فيها العبيد.
سوف يظل أمثال هؤلاء يصرخون بجنونهم، ولن يحققوا شيئاً، لأنهم ببساطة يعملون ضد حركة التاريخ ومنطق العقل وحكمة الأديان.