بقلم: د. محمود خليل
ربما تذكر أننى حدثتك يوماً عن كتاب «التعادلية» لمؤلفه توفيق الحكيم.
التعادلية ببساطة تعنى التوازن بين عناصر الحياة. فكل عنصر فى الوجود المحيط بنا له عنصر آخر يعادله، لأن سيطرة عنصر واحد بمفرده على حياة البشر تؤدى إلى اختلال ميزانها.
على سبيل المثال: الخير يوازن الشر، والليل يوازن النهار، والأبيض يوازن الأسود، والأخذ يوازن العطاء وهكذا.
لا يُعقل، على سبيل المثال، أن تظل تأخذ وتأخذ وتأخذ دون حساب، ثم تطالب مَن تأخذ منه بالمزيد من العطاء.
كذلك لا يُعقل أن تطلب من شخص أن يعطيك ما لا يستطيع، الطلبات لا بد أن تكون منطقية، والمثل المصرى يقول: «إذا أردت أن تُطاع، فأمر بما هو مستطاع» قدرة البشر على الاستيعاب هى قدرة محدودة بحجم وقدرة، تماماً مثل الدورق الذى إذا تجاوزت حافته وأن تملأه فسوف يتدفق الماء على الأرض، ومثل الجمل إذا وضعت فوق ظهره حمولة تزيد على قدرته على الحمل، فسوف ينخّ أسفل منها، وقد يلفظها كلها عن ظهره.
قياس التحمل هو الأساس فى تحديد حجم الحمولة فى دنيا الجمادات، فما بالك بدنيا البشر، والله تعالى خالق البشر يقول: «لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها» وفى آية أخرى: «لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها».
فى عصر السلطان قنصوة الغورى تضخمت ظاهرة «المماليك الجلبان»، وتكاثر عددهم بصورة لافتة، وأصبحوا جزءاً من مركب الحكم داخل الدولة الجركسية.
تأسست حياة هذه الفئة من المماليك على جيوب الأهالى، وما يمكن أن يجمعوه منهم، فى أحيان لم يكن السلطان الغورى يرضى عن الطريقة التى يؤدون بها مع الناس، لكن حاجته إليهم كانت تصرفه عن وضع حد لتصرفاتهم.
كان ولاء هؤلاء المماليك لأنفسهم ومصالحهم وما يمكن أن يحصدوه من أموال وأسلاب من الأهالى سواء بإرادة السلطان أو بغير إرادته. وكان من السهل جداً على طائفة «الجلبان» التخلى عن قيادتهم فى أشد اللحظات خطورة، بما فى ذلك لحظة المواجهة مع العدو.
وذلك ما حدث بالضبط من جانب المماليك الجلبان حين جد الجد وزحف السلطان التركى سليم شاه نحو الشام، فقد تخلوا عن السلطان الغورى وباعوه فى المواجهة، وكانت النتيجة ما حدث فى معركة مرج دابق.
وعندما تولى السلطان طومان باى الحكم كانت أول خطوة اتخذها هى التخلص من «الجلبان» ورفع ما فرضوه من ضرائب على الأهالى، ووقف كافة أشكال السلب والنهب التى كانوا يمارسونها على الأهالى، ولكن جاءت الخطوة بعد فوات الأوان.
الناس ينوءون بما يحملون فوق ظهورهم، وهم على استعداد للاستيعاب ما دام لديهم طاقة على ذلك، لكن عندما يزيد الحمل، فإن الدنيا تختلف ويبدأ كل ظهر فى نفض ما فوق ظهره، لأن الناس لا يستطيعون تحمل ما لا طاقة لهم به.
القاعدة الإنسانية تقول: لا ترهق الحصان المرهق.
والقاعدة العلمية تقول: المادة لا تُستحدث من عدم.