بقلم : محمود خليل
منذ أن نزل «أدهم» إلى الخلاء وهو يخشى النار. «إدريس» كان يحبها ويهوى اللعب بها، وجاراه فى اللعبة عدد من أبناء وأحفاد «أدهم» فقابلهم الأب بالزجر، لأنه كان يرى النار مادة صُنع منها الأبالسة، وما أكثر ما أحبوا صناعتها. لذلك فقد كان يوم 26 يناير عام 1952 من أشد الأيام بؤساً فى حياة «أدهم» حين وجد ألسنة اللهب تتعالى فى سماء المحروسة منذرة بخطر داهم قادم. كانت الأدهمية تحترق. لا أحد يعرف على وجه التحديد من الذى أشعل حريق القاهرة وترك النيران تتمدد فى كل اتجاه فى ذلك اليوم، قيل الملك، وقيل الإنجليز، وقيل جمعية مصر الفتاة، واتهم غيرهم، لكن فى كل الأحوال لا توجد معلومة يقينية تحسم الجدل.
كان خليل حسن خليل، صاحب رباعية «الوسية»، أحد من عاصروا هذا الحدث عياناً وسماعاً. سجل مشاهداته، وكذا ما استمع إليه فى الجزء الثانى من سيرته الذاتية المعنون بـ«الوارثون». صرخ أحد أصدقائه: «أحرقوا القاهرة»، سأل من الذى أحرقها؟ رد عليه: «رأيت الناس بعينى وكأن الجن قد ركبهم والشياطين قد نفثت النار فى عيونهم وأفواههم وأيديهم، فقلبت القاهرة إلى جهنم». كان رأى «خليل» أن العفن بلغ بالنظام درجة لم تجد الجماهير معها إلا النار لتتعامل معه. كان لا بد من النار لتطهير آثام النظام. جراثيم النظام استشرت فى جسد البلد. فكان لا بد من الحريق للتخلص من النظام وجراثيمه. يصف «خليل» خريطة الحريق ويذكر أنه بدأ من وسط البلد، ليصيب ممتلكات الطبقة الرأسمالية المستغلة، متاجرهم وعماراتهم ومكاتبهم هى التى أُحرقت. لم يكن صاحب «الوارثون» يرى أن الشعب يحرق ثروته ضمن ما يحرق فى القاهرة، بل اعتبر الفعل طبيعياً لأن ألسنة النار لم تعل فى المحال الصغيرة كما ارتفعت فى المتاجر الكبرى والمشروعات الرأسمالية المتمددة التى يملكها نفر من المصريين والأجانب واليهود، فى حين لم يصب الأحياء الشعبية أذى. إنه حريق محلات الأغنياء والأجانب.
وجهة النظر تلك التى تبناها «خليل» لم تكن بعيدة عن تفكير الكثير من الأداهمة الشعبويين، ممن يرون أن النار تحرق لكنها تطهر، وأن الأرض البور إذا أصابتها شعلة الحريق اهتزت وأخصبت وربت. كانت «المحروسة» من وجهة النظر تلك ترقد على بركان يؤذن بالانفجار فى أى لحظة. كثيرون كانوا يتوقعون مع فجر كل يوم أن يسمعوا خبراً مثيراً يخرج من رحم النبوءة ليعلن عن التغيير القادم. كان الأداهم يسألون: يا ترى من القوة التى ستقوم بالخطوة؟. نظر بعضهم كان ينصرف إلى الوفد، الحزب الذى لم يزل يتمتع بمنزلة شعبية خاصة رغم ما أصابه من ضربات، آخرون كانوا يتأملون التغيير من الإخوان أو مصر الفتاة، تلك القوى الجديدة التى اختارت أسماء ثورية لصحفها: «النذير» و«الصرخة» لتعبر عن الرسالة التى تريد الوصول بها إلى الأداهم. بعض أفراد النخبة فقط كانوا يسمعون عن الضباط الأحرار والمنشورات التى توزع باسمهم فى بعض الأماكن، لكن «أدهم الشعبى» لم يكن يعلم شيئاً عنهم، لأنه منشغل فى أغلب الأحوال بالقوى الزاعقة التى تتجول على سطح المشهد. كثير من الأداهم لم يسمعوا عن التنظيم الذى قام بالتغيير إلا صباح يوم 23 يوليو عندما طار صوت «أنور السادات» عبر أثير الإذاعة يعلن للمصريين انطلاق «الحركة المباركة».