بقلم : محمود خليل
أبرم الرئيس السادات عام 1979 اتفاقية سلام مع إسرائيل، استردت مصر بموجبها أرض سيناء التى اُحتلت عشية نكسة 1967. وبموجب الاتفاقية تم تطبيع العلاقات الرسمية بين مصر وإسرائيل، لكن الأجيال التى عاصرت وشاركت فى الحروب ضد الكيان الغاصب اختلفت فى درجة قبولها وموقفها من فكرة التطبيع على المستوى الشعبى. فى كل الأحوال دخلت مصر عصر ثقافة جديدة يمكن وصفها بـ«ثقافة السلام». التحولات الاقتصادية وتعقّد المشكلات الاجتماعية كانا يهيئان الأغلبية لتقبل الثقافة الجديدة، خصوصاً أن السلطة حينذاك رطّبت بين السلام و«الرخاء» وولغت فى حديث طويل عن أن الحروب التى خضناها مع إسرائيل سبب المشكلات الاقتصادية التى نعانى منها. مع تسحّب الثقافة الجديدة إلى الواقع المصرى بدأ العديد من القضايا الكبرى التى عاش معها المواطن ردحاً طويلاً من الزمن يسقط فى شرك «السيولة»، مثل العداء لإسرائيل، وفكرة الدولة القوية القادرة على قيادة المنطقة، والعلم كأساس لتقدير قيمة الفرد، والأخلاق كأساس للحكم على إنسانيته، وغير ذلك من قضايا وقيم ظلت تتمتع بحيثية اجتماعية كبيرة خلال فترتى الخمسينات والستينات.
حلت شعارات جديدة مضحكة محل الشعارات الكبرى التى سادت خلال الخمسينات والستينات، أصبحت الشعارات المترددة فى الشارع: «كله يدلع نفسه» و«أبّجنى تجدنى» و«خد الفلوس واجرى» و«الكل بيعبد الأرنب» (يعنى الجنيه) و«العدد فى اللمون»، و«الساعة بخمسة جنيه والحسابة بتحسب»، و«صاحبى قرشى وعمى دراعى»، و«كله عند العرب صابون». بعض الشعارات الجديدة تبلورت فى أغانٍ مثل: «الهرم اتخرم» «وكامننا» و«أنا واد خلاصة لاصة.. ومية مية»، وبعضها تبلور فى أفلام مثل «رجب فوق صفيح ساخن» «وعنتر شايل سيفه»، والأعمال الأخرى التى قدمها الفنان عادل إمام وغيره إرضاء للشباك الذى تعود على التفاهة حتى أدمنها، ورغم ذلك ظلت القيمة باقية فى صوت محمد منير وعلى الحجار ومدحت صالح، وأيضاً فى بعض الأعمال السينمائية والدرامية التى قدمها عادل إمام وغيره. ومن الملفت أن المرحوم شعبان عبدالرحيم قلب بر المحروسة عندما غنى «أنا بكره إسرائيل»، فقد كانت أشبه بطرقة على الرأس نبهت الناس فجأة إلى التحولات التى تتسحب إليهم عبر ثقافة السلام التى أصبحت مؤسسة على مفهومى: «المنتج الفكرى الاستهلاكى» و«المنتج الفنى التافه». لكن ذلك لم يمنع من ظهور بعض الأفلام التى حاولت مقاومة هذا الزحف، مثل فيلم «زمن حاتم زهران»، ثم فيلم «فتاة من إسرائيل»، ثم فيلم «السفارة فى العمارة» وحاولت هذه الأفلام التصدى للجوانب السلبية لثقافة السلام.
الأعمال الفنية لم تكن مجرد بنات أفكار المبدعين، بل عكست نوعاً من التململ فى الواقع، عبّر عن نفسه بصور مختلفة. وقد ظهر فى واقعة سليمان خاطر (يناير 1986)، ثم فى واقعة أخرى شهدها شهر فبراير من العام نفسه، وهى واقعة تمرد الأمن المركزى. وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أن شحنة الغضب الكبرى التى حملها هذا الحدث تم تفريغها فى شارع الهرم، بما حمله من رمزية على أصحاب المال الفاسد الذين يستخدمون ثرواتهم فى إعادة تدوير الفساد عبر منتجات غذائية وفنية وفكرية فاسدة هابطة لا تقيم وزناً لمعاناة البسطاء، وتجتهد فى شغلهم عن مشكلاتهم الحقيقية عبر كعبلتهم فى مستنقع التفاهة.
لست أدرى لماذا ظن البعض أن تتفيه عقل المواطن، وحشوه بنفايات الكلمات والمعانى الرديئة، وتتويهه عن الواقع الذى يعيش فيه هو الضمانة الكبرى للسلام، رغم أن السلام الحقيقى أساسه العدل والوعى بالحقوق والواجبات؟!.