بقلم: د. محمود خليل
إنها الورقة الرابحة التى تستطيع أن تسيطر بها على العالم. سلطة المال لا تزال السلطة الأجدى والأقوى فى فرض الإرادة على الآخر، أكثر من سلطة السلاح، وكذا سلطة المعلومات. وكأن العالم يعيد اكتشاف قاعدة: «من يملك يحكم». العديد من المشاهدات التى تتفاعل داخل الإقليم الذى نعيش فيه تؤكد ذلك. منذ بضعة أيام خرج رئيس جمهورية إيران حسن روحانى على شعبه قائلاً: «لقد خسرنا مئات المليارات بسبب الولايات المتحدة الأمريكية»، يشير بذلك إلى أثر العقوبات الاقتصادية التى فرضتها واشنطن على طهران بسبب عدم خضوعها لاتفاق غربى ينظم برنامجها النووى وبرنامج تصنيع الصواريخ. الأمر نفسه ينطبق على الوضع فى لبنان، فقبل ساعات من خطاب «روحانى» وقعت اشتباكات عنيفة بين مجموعة من المحتجين وقوى الأمن أمام مصرف بيروت بسبب القرار الحكومى بصرف الودائع الدولارية بالليرة اللبنانية. فقد خمّن المواطن هذا القرار نذيراً بكارثة اقتصادية تحلق فى الأفق. ويبدو التخمين صحيحاً إذا أخذنا فى الاعتبار أن الكثير من الدول التى كانت تمد لبنان بالدعم الاقتصادى بالأمس غلت يدها وأصبحت لا تعطى شيئاً اليوم.
أمريكا فى طريقها لفرض إرادتها على الجميع والفضل فى ذلك يعود إلى «ورقة الاقتصاد». وهى الورقة التى علا شأنها ومقامها منذ اللحظة التى دخل فيها «ترامب» إلى البيت الأبيض. فهو رجل يمارس السياسة بعقلية تجارية، ويجيد التعامل بلغة المال، ويجدها اللغة الأنسب لعقد الصفقات السياسية والعسكرية. ولا أجدنى بحاجة إلى الاستشهاد على ما أقول بأمثلة لا تغيب عن أحد. لقد أراد «ترامب» أن يروض الطموح الإيرانى -لحساب إسرائيل بالطبع- فسلك المسلك المضمون. فلا خلاف على أن إيران تمتلك قدرة تكنولوجية جيدة، وخلال السنوات الأخيرة أصبحت قادرة على تصنيع وتطوير الأسلحة، وهو أمر يثير القلق لدى إسرائيل وكذلك لدى دول الخليج العربى. وهو القلق الذى عالجه «ترامب» بطريقته الخاصة، فنصح الدول العربية بشراء السلاح من أمريكا لتحمى نفسها من الرغبة الإيرانية الجامحة للتمدد فى المنطقة، ونصح إسرائيل بعدم التحرش العسكرى بإيران، واكتفى بضرب حصار اقتصادى محكم على الدولة الإيرانية أدى إلى صراخ الإيرانيين فى الشارع لاعنين حكومتهم وقيادتهم ومرشدهم وملاليهم. وفى لبنان أراد «ترامب» أن يقلم أظافر حزب الله فماذا فعل؟ لقد حاصر الدولة اقتصادياً ومنع وصول الدعم الاقتصادى المعتاد لحكومتها، فتوتر الشارع وخرج اللبنانيون متظاهرين فى الشوارع، ومتهمين حزب الله وحكومة الدمى التى يحركها بتسميم معيشتهم.
رصاصة الاقتصاد أقوى مما عداها، وقد أفلح «ترامب» فى ملاعبة الجميع بها. ليس إيران ولبنان وحدهما، بل دول أعتى وأشد، مثل الصين وروسيا. تجربة الولايات المتحدة تقول إن أياً من القدرة التسليحية أو النفوذ السياسى ليس كافياً لإملاء الإرادة، فورقة الاقتصاد مهمة، إن لم تكن الأهم، فى حسم الصراعات والمواجهات. وذلك درس لا بد أن تتعلمه الدول التى تسير على ساق واحدة، وتظن -وهماً- أنها أصبحت ضمن منظومة الدول القوية. فساق السلاح وساق السياسية لا تستقيمان على الأرض ما لم تمتلك الدولة ذراعاً اقتصادية قوية.