الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. ملعون من يشعلها بين بشر أرهقتهم الحياة بما فيه الكفاية وليسوا بحاجة إلى المزيد.
لا يليق بمصرى ابن حضارة أن يتنابز بالألفاظ مع مصرى مثله.
آلاف السنين ظلت هذه الأرض سكناً لبشر يؤمنون بالسماء على شرائع مختلفة.
فى حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 وقف زكى عبدالباقى، قاهر خط بارليف، إلى جوار محمد أفندى رافع علم مصر فوق ترابه، يدافعان معاً عن تراب البلد الذى احتضن أحلامهما منذ أن عرفا معنى الحياة، لم يكن وصف «مسلم أو مسيحى» حاضراً فى مخيلة أى منهما.
ما بال البعض من هنا أو هنا يترخص هذه الأيام فى الطعن فى دين الآخر دون أن يبالى بمشاعره والعقيدة التى يؤمن بها؟.
الإسلام ينهى عن ذلك، وينبه المسلم إلى أنه كما أن القرآن الكريم هدى للمتقين «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين» يؤكد المعنى ذاته فى الإنجيل «وأنزلنا الإنجيل فيه هدى ونور». ومبدأ «لكم دينكم ولى دين» مبدأ رئيسى وأساس من أسس تصور المسلم للدين. وكان النبى صلى الله عليه وسلم يدعو لمخالفيه فى الدين من عرب مكة: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون».
وفى الإنجيل نهى واضح عن تتبع خطايا الآخرين: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر»، وكان المسيح يعلم تلامذته قائلاً: «أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردوكم».
هذا أمر جديد على المصريين الذين لا يفتش طبيبهم فى خانة ديانة مريض قبل أن يقرر علاجه، ولا مهندسهم قبل أن يبنى بيتاً، ولا معلمهم قبل أن يعلم الصغار، ولا عاملهم حين يؤدى خدمة لغيره. لم نكن يوماً كذلك ولن نكون.
الملاسنات المقيتة التى تظهر الآن على مواقع التواصل الاجتماعى لا يتورط فيها إلا السفهاء من المصريين. لا يحب هؤلاء دينهم، لأن أصل الحب فى كل الأديان هو حب الإنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو عقيدته.
ومن العيب أن نوظف أداة للتقارب ما بين البشر عكس وظيفتها فنجعلها وسيلة للتباعد وغرس بذور الفرقة.
لقد كتبت ذات مرة عن «اللورد كرومر» قبل رحيله عن مصر عام 1907 وحكيت كيف اتهم المصريين بالتعصب، وكيف رد عليه أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد، وطلب منه أن ينظر إلى المصريين - مسلمين ومسيحيين ويهود- وكيف يعيشون معاً فى أمن ودعة.
كذلك عاش المصريون دوماً -بغض النظر عن أديانهم- يختلط طعامهم فيما بينهم فى المواسم، ويعجبهم نفس اللون من الموسيقى، وتطربهم نفس الأصوات، وتوجعهم نفس الآلام، وتواجههم نفس التحديات، ويتبركون بنفس الأولياء، ويعيشون شغفاً مشتركاً بطقوس البهجة فى كل المناسبات الدينية.
علينا أن نفهم ونستوعب أن «الفتنة» ليست منتجاً محلياً، ولكن يقف وراءها منتجون أجانب. كرومر الذى كان يتهم المصريين بالتعصب، كان أكثر قيادات الاحتلال الإنجليزى لعباً على وتر الفرقة وخلق الفتن، حتى يطيل أمد احتلاله لتراب البلاد، وعندما أحبط المصريون سعيه، ولم تنفع محاولاته فى تفرقتهم، خرج يتهمهم بالتعصب.
ملعون من يفتح باب «الفتنة» المغلق.