عبر تاريخه ظل الشارع المصرى يعانى من حالة فراغ جعلته هدفاً يسيراً لكل من يريد السيطرة عليه.. والسر فى ذلك حالة العزلة التى تحكم العلاقة بينه وبين ولاة أمره أو نخبته الحاكمة.
دائماً ما يغرّد عقل النخبة الحاكمة فى وادٍ، ويشرد عقل المواطن فى وادٍ آخر.
ليس مطلوباً من المواطن البسيط أن يبادر ويحاول أن يفهم عقل النخبة الحاكمة.. بل الأولى أن يبادر أولو الأمر إلى تبسيط أفكارهم للمواطن وشرح خططهم له وإقناعه بها.
الاجتهاد فى الشرح والتبسيط والتوضيح واجب على النخبة الحاكمة لأنها ببساطة هى التى تحتاج إلى المواطن. فالتجربة الإنسانية تقول إن التغيير أساسه مشاركة البشر.. والمشاركة لا تتحقق إلا عندما يقتنع الناس بجدوى ما يفعلون وقيمته ومردوده على حاضرهم ومستقبلهم.
منذ ما يزيد على قرنين من الزمان شهدت مصر تجربة نهضوية كبيرة على يد الوالى محمد على. كان الرجل يمتلك رؤية وخطة لتحديث جميع مناحى الحياة فى مصر، لكنه لم يجهد نفسه فى إقناع الشارع بها، لم يكن يرى فى الأهالى أكثر من أداة لا بد أن تسمع وتطيع لأنها لا تعرف مصلحتها.
صنع محمد على الكثير لمصر بالاعتماد على «تسخير المصريين»، ودفعهم للطريق الذى أراد أن يسير فيه بغض النظر عن اقتناعهم به، وقد نجح فى الحفاظ على معالم مشروعه ما بقى حياً، لكن الأمر اختلف بعد وفاته، حين تعرّض مشروعه التحديثى لهزة عنيفة وأخذ فى التراجع.
لم يكن محمد على يرى فى الناس أكثر من حشود يجب أن يسوقها إلى ما فيه مصلحتها، ولا يهم أن تكون مقتنعة أو غير مقتنعة بالطريق الذى تسير فيه، فى حين لم يجد البسطاء من الأهالى فى محمد على الذى أرهقهم بالضرائب وجعلهم حكراً للدولة أكثر من والٍ يريد أن يصنع مجده الشخصى.
تعلّم المصريون من تجربتهم مع الولاة والأمراء أن من الخير لهم الابتعاد عنهم، وأنه إذا سار الأمير فى شارع فعلى «ابن البلد» أن يسير فى حارة أو عطفة أخرى، ورفعوا فى مواجهة النخبة الحاكمة شعار «قال يا نحلة لا تقرصينى ولا أنا عاوز عسل منك».
ومن ناحيتها دأبت النخبة الحاكمة على التعامل مع الأهالى البسطاء بقدر من التعالى الذى تمثل جوهره فى عدم الاهتمام بالحديث إليهم أو شرح خططهم لهم أو فهم الطريقة التى يفكرون بها ونظرتهم إلى الحياة التى يحيونها فى ظلالهم.
قد يقول قائل إن والياً مثل محمد على اعتمد على نخبة من المثقفين التنويريين الذين كان عليهم القيام بواجبهم فى شرح وإقناع الأهالى بمشروعات الباشا.
وليس هناك خلاف على أن الرجل قد أنشأ هذه النخبة بالفعل، لكن المشكلة أنها تعاملت مع الأهالى بنفس القدر من التعالى وأقامت العلاقة بينها وبين الناس تبعاً لمعادلة العلاقة بين الأستاذ النابه والتلميذ «الخايب».
تجلت ملامح هذه المعادلة فى التواصل مع الأهالى بلغة غير مفهومة عجزت عن اختراق العقل الشعبى أو إحداث نوع من التغيير فى تناول الناس لأمور الدنيا أو أمور الدين.
أضف إلى ذلك بالطبع أن النخبة المثقفة كانت تقدم نفسها كجزء من النخبة الحاكمة، فكانت النتيجة أن أحس الأهالى بالنفور منها.
هذا الجدار العازل ما بين نخبة الحكم والشعب هو السر فى حالة الفراغ التى جعلت الشارع المصرى فريسة طيعة فى أيدى الدجالين.