بقلم: د. محمود خليل
كانت السيدة زينب تعلم المحنة التى سيلاقيها أهل البيت بقرار الثورة على يزيد بن معاوية تحت لواء الحسين، لكنها صممت على السير فى الطريق، فالحق عندها كان أجل وأعلى من الحياة فى ظل أوضاع لا ترضاها، أوضاع تتناقض مع قيم ومبادئ الرسالة السامية التى حملها جدها محمد، صلى الله عليه وسلم.
سارت السيدة زينب مع أخيها إلى العراق، وآوت إلى الخيمة التى ضمت آل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، ومن داخلها أخذت تراقب المعركة غير المتكافئة، وسرعان ما بدأ السيف يعمل عمله فى صفوف آل الحسين.
وكان أول قتيل منهم على الأكبر بن الحسين بن على، وأمه ليلى بنت أبى مرة. طعنه مُرة بن منقذ فقتله لأنه حاول أن يصل إلى أبيه ليدافع عنه، وهو ينشد: «أنا على بن الحسين بن على.. نحن وبيت الله أولى بالنبى.. تالله لا يحكم فينا ابن الدعى». فلما طعنه «مُرة» حاصره الرجال فقطعوه بأسيافهم، فقال الحسين: «قتل الله قوماً قتلوك يا بنى، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك محارمه، فعلى الدنيا بعدك العفاء». وخرجت جارية -كما يحكى ابن كثير- كأنها الشمس حسناً، فقالت: يا أخياه ويا ابن أخاه، فإذا هى زينب بنت على، فأكبّت عليه وهو صريع، فجاء الحسين فأخذ بيدها فأدخلها الفسطاط.
هناك شاهدان مهمان فى هذه القصة. الشاهد الأول يتعلق بالأبيات التى أنشدها على الأكبر وهى تشى عن موقف آل البيت من يزيد بن معاوية، فقد كان على الأكبر يرى أن أباه أولى بالأمر منه، وأن يزيداً ابن «الدعى»، يعنى معاوية.
وواقع الحال أن الأمر كان صراعاً سياسياً، نعم كان معاوية وآل بيته من الطلقاء، رغم ما يقال عن أنه أسلم قبل الفتح، إلا أن ذلك لا يعنى بحال عدم أهليته لحكم المسلمين، والدليل على ذلك تجربته فى الحكم، وقد ورث يزيد الحكم عن أبيه، وأخذ له الأول البيعة بالسيف، ومؤكد أن الحسين، سبط النبى، كان أكثر ورعاً منه، والورع ميزة فى الحاكم إذا توافرت فيه، لكن الحكم له مؤهلات أخرى عديدة.
أما الشاهد الثانى، فيتصل بحالة الهلع والجزع التى أصابت السيدة زينب عندما صرع جنود يزيد ابن أخيها «على الأكبر». فقد خرجت من خيمتها صارخة باكية، شأنها شأن أى امرأة رقيقة المشاعر هالها تكاثر رجال يزيد على صبى صغير خرج يدافع عن أبيه. لم يكن جزع السيدة الجليلة ضعفاً بل كان حناناً وعمقاً فى المشاعر، وإنسانية، ومحبة لأهل بيتها الذين أخذوا يتدفقون على خيمة الحسين ما بين قتيل، وجريح يصارع موتاً وشيكاً.
آل أمر العائلة النبوية الكريمة بعد مذبحة كربلاء إلى الشام فساروا إليها يجرجرون أوجاعهم وأحزانهم كانت السيدة زينب تبكى بكاءً مراً.
بكاء السيدة الجليلة لم يكن عن ضعف أو عدم رضاء بقضاء الله وقدره، بل كانت دموع الرأفة والحنان على أخيها الذى قضى شهيداً وعلى أبناء عمومتها، وصبية آل البيت الذين لم ترحمهم سيوف السلطة، والباحثون عن السلطة.
لم تكن السيدة المؤمنة قد وصلت إلى الشام بعد حين التقت عبيدالله بن زياد، قائد جنود يزيد، الذين واجهوا آل البيت فى كربلاء. وتشهد المواجهة التى اشتمل عليها اللقاء أن السيدة زينب لم تضعف أو تلِن أو تهتز أو تنكسر، بل واجهت بشجاعة لا يملك أن يواجه بها أعتى الرجال مثل هذه المواقف.
ولولا ثبات السيدة زينب لاجتثت شأفة نسل النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، يوم كربلاء، فقد نافحت عن آخر ذكر تبقى من أبناء الحسين، وهو على الأصغر أو على زين العابدين، وحالت دون وصول سيوف بنى أمية إليه.
رضى الله عن تلك السيدة التى واجهت مواقف عصيبة تنوء بها أعتى الشخصيات، متسلحة بما حباها الله تعالى من إيمان عميق.