بقلم: د. محمود خليل
أواخر عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ثار حديث عن الديمقراطية، مثّل جانباً من تداعيات نكسة 1967. لم يكن الظرف حينها يهيئ لتحول ديمقراطى حقيقى يعالج الآثار السلبية التى ترتبت على الطريقة الأحادية أو أسلوب الاستفراد فى صناعة القرار.
الأحاديث المتواترة عن الديمقراطية حينذاك تجد ترجمتها فى موجة الأفلام السينمائية التى ظهرت بعد 1967 مثل: شىء من الخوف والمتمردون وميرامار وثرثرة فوق النيل والحب تحت المطر وغيرها.
اعتمد أغلب هذه الأفلام على نصوص أدبية كانت تحذر من مخاطر «سيطرة الصوت الواحد» نهض بإنتاجها بعض الكُتاب الليبراليين، مثل نجيب محفوظ، صاحب الميول الوفدية المعروفة، أو كتاب يساريين، مثل صلاح حافظ، آمنوا بفكرة الاشتراكية الديمقراطية، لم يكن فى الإمكان –حينها- أبدع مما كان، فقد كانت البلاد تستعد لخوض معركة تحرير الأرض، ولم تكن الظروف تتيح أكثر من ذلك.
اختلف الأمر بعد انتصار السادس من أكتوبر 1973 أيام الرئيس الراحل أنور السادات، فقد دخلت البلاد عصر انفتاح اقتصادى بدءاً من عام 1974، كان من الضرورى أن يتوازى معه انفتاح سياسى. فسوق الاقتصاد المفتوح لا بد أن تتوازى معها سوق سياسة وسوق إعلام مفتوحتان أيضاً.
لكن كما تلوّنت تجربة الانفتاح بلون الفساد وإشكاليات المشروعات الاستهلاكية ورغبات الكسب السريع تزاحمت سوق السياسة بصور المعارضة المصنوعة أو المروّضة، والمعارضة التى تتاجر بالدين فى سوق الدولة، والمعارضة الانتهازية التى ترى فى السياسة سوقاً أقرب إلى سوق الاقتصاد تعتمد على فكرة «الهبش السريع».
لم يكن فى الإمكان أيام السادات أيضاً أبدع مما كان. فقد تعرضت التجربة الحزبية التى شهدتها مصر ما قبل ثورة 1952 للتآكل على مدار عدة عقود، وأصبحت عقيدة الاتجاه الواحد حاكمة للجميع.
فالتنظيم السياسى الواحد المتمثل فى الاتحاد الاشتراكى لعب دور الممثل الأحادى للمنحازين إلى السلطة. وفى المقابل مثّلت التيارات الدينية، وعلى رأسها جماعة الإخوان الممثل الأوحد للمعارضين، مؤكد أن أصواتاً مختلفة كانت تظهر على يسار السلطة أو المعارضة، لكنها لم تتمتع بتأثير حقيقى على مستوى الشارع.
ثورة يوليو قامت بالتفاهم ما بين الضباط الأحرار وجماعة الإخوان، ثم تحول حلفاء الأمس إلى أعداء حقيقيين طيلة فترة الستينات، ثم حدث نوع من التنسيق بين الطرفين خلال السبعينات أراد فيه السادات أن تقوم الجماعة بدور المعارضة حتى تسحب البساط من تحت أقدام الليبراليين واليساريين، فى حين رأت الجماعة أن طموحاتها يجب أن تتسع لتشمل حكم الدولة.
أيام «مبارك» حدث نوع من الشراكة ما بين السلطة والإخوان، ظهرت فيه لعبة الصفقات، وترك بعض المساحات للجماعة لكى تلعب فيها، مثل النقابات والمساجد وغيرهما، ثم كانت ثورة يناير 2011 واعتبر الإخوان أنفسهم الورثة الطبيعيين للحكم، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، لم تزل سمة «الأحادية» مسيطرة على مفهوم التأييد ومفهوم المعارضة وغابت فكرة التعددية عن الطرفين.
التحول الديمقراطى يتطلب وجود حياة حزبية حقيقية، تسمح بوجود أحزاب شعبية قادرة على دعم الحكم، وأحزاب شعبية أخرى قادرة على ترجمة الرؤى المختلفة للمعارضة، خطاب المؤيدين إنشائى شعاراتى أقرب إلى المواويل الشعبية، وخطاب المعارضين حنجورى عصبى ناقم أقرب إلى «التعديد».
الشارع السياسى المصرى تغلب عليه الفوضى واللخبطة والبعد عن الاحتشاد المنظم، سواء وراء الحكومة أو وراء المعارضة.. وذلك خطر لو تعلمون عظيم.