بقلم : محمود خليل
مشاهد متعدّدة ومتنوعة تنقلها وسائل التواصل الاجتماعى تشتمل على فواصل إنشاد دينى يقوم بها أطفال أو شباب داخل عربات المترو، وتظهر الفيديوهات الناقلة لهذه المشاهد كم التفاعل من جانب الركاب مع من يقوم بالإنشاد، إذ يتحولون إلى بطانة تردّد «اللازمة» الأساسية للابتهال وهم فى قمة النشوة والوجد. الإنشاد الدينى كما تعلم يشكل جزءاً لا يتجزأ من الوجدان المصرى. وأغلب المطربين الكبار الذين عرفناهم فى القرن العشرين بدأوا تجاربهم الفنية بالإنشاد. هكذا بدأت أم كلثوم ورياض السنباطى على سبيل المثال. كما أن الأدعية شكلت جانباً أساسياً من تجارب الكثير من المطربين، بل قل إننا لا نكاد نستثنى مطرباً واحداً منهم من دعاء أو ابتهال دينى. وليس هناك خلاف على أن ظهور المنتج يرتبط بوجود الجمهور. ولم يكن للكثير من المطربين أن يتفنّنوا فى الأدعية والأغانى الدينية لولا وجود طلب على ذلك.
الجديد فى الظاهرة التى نتحدث عنها يتمثل فى تحول مسألة الإنشاد الدينى من ساحة الاحتراف إلى ساحة البشر العاديين، وحالة الشغف التى أصبحت تعترى من تسوقه الصدفة إلى أحد مسارح عربات المترو التى تشهد طفلاً أو شاباً أو سيدة تنشد فى محبة النبى وأهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم. ولعلك تتفق معى فى أن المصريين مولعون بمحبة أهل البيت، إلى حد دفع البعض إلى اتهامهم بالدروشة فى أحوال، والهوى الشيعى فى أحوال أخرى!. لكن واقع الحال يقول إن المصريين شعب محب للحياة على ما فيها من أوجاع وصعوبات. هذه الصعوبات والأوجاع أحياناً ما تدفعهم إلى حالة من الذوبان فى حالة الإنشاد تلك، وترديد الأناشيد والابتهالات التى تختلط فيها مشاعر الحنين بالأنين، والشكوى لرسول الله بالاستغاثة به (استمع على سبيل المثال إلى استغاثة موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب)، والدعاء لله تعالى ببث الأحزان إليه.
فى تقديرى أن ما يجب أن نلتفت إليه ونحن نحلل هذه المشاهد أن المصريين أصبحوا لا يؤثرون ما كان يميزهم تاريخياً من ولع بالانخراط فى حالة «ضحك جماعى هستيرى» مرده السخرية من الأشياء ومن العالم المحيط بهم، وأصبحوا يفضّلون حالة «الأنين الجماعى». الإنشاد -على ما فيه من جمال وجلال- يعكس ميلاً أكبر لدى المصريين إلى الحزن والانخراط فى حالة تبادل شجن كبديل لحالة الضحك بمناسبة ودون مناسبة. للإنصاف لا بد أن نقول إن هذا الميل كان قائماً لدى المصريين منذ عقود طويلة، وكانت الغالبية تمارسه بشكل فردى عند الاستماع إلى الابتهالات أو الأدعية أو الأغانى الدينية. الجديد هو حالة «الجماعية» التى تميز «أنشودة المترو»، التى ينخرط فيها الجميع ويتداولون مشاهدها بقدر كبير من الاحتفاء. المسألة هنا تعدت ما هو دينى وما هو فنى إلى ما هو «اجتماعى». فى حدود علمى فإن محطات وعربات المترو فى بلاد كثيرة تشهد عازفين أو مطربين يقومون بالعزف والغناء، لكن الفارق أن هؤلاء يعبرون فى أدائهم عن البهجة والاحتفاء بالحياة، خلافاً لأنشودة المترو التى تحمل شجناً وشكوى وبثاً واستغاثة أكثر من أى شىء آخر.