بقلم: د. محمود خليل
هل يمكن أن يسوق العشق إلى القتل؟. ذلك ما تثبته كتب التراث من حيث أرادت أن تنفيه وهى تتناول قصة واحدة من أشهر حوادث الاغتيال السياسى. إنها حادثة اغتيال الخليفة على بن أبى طالب على يد عبدالرحمن بن ملجم.
مشهد فى منتهى الشجن والعاطفية ترسمه كتب التراث لتلك الواقعة المروعة. أما جانب الشجن فيظهر عند وصف حال الخليفة الثالث قبل الاغتيال وهو يتحدث عن نهايته الوشيكة ويردد «إنما هى ليلة أو ليلتان» ثم يلقى وجه ربه بعدها، ثم وهو ينهى نساء بيته وهن يطردن الإوز الصائح بصوت مزعج، فيقول لهن: «ذروهن فإنهن نوائح».
بعد الهزيمة المدوية للخوارج فى موقعة النهراون انعقد اجتماع خطير بين من تبقى من المتمردين على على بن أبى طالب، وقرروا اغتياله هو ومعاوية وعمرو بن العاص. وتعهد «ابن ملجم» بتولى المهمة فيما يخص علياً.
تبلورت المؤامرة بين ثلاثة ذئاب، لتستهدف «شركاء التحكيم». والواضح أن «ابن ملجم» كان أكثرهم حيطة وحذراً، إذ جعل مؤامرته فى قلبه وكتمها حتى عن أصحابه بالكوفة، رغم أنهم يتشاركون معه فى إنكار قبول على بن أبى طالب للتحكيم، وأدى كذئب منفرد، يتحرك بمبدأ «المفاجأة»، لكن أموراً أخرى جدت كشفت جانب «العاطفية» فى هذا الحدث، عندما التقى بـ«قطام» فاتنة «تيم الرباب».
كان شقيق «قطام» وأبوها من بين قتلى الخوارج فى موقعة النهروان. وكانت - كما يقول ابن الأثير- فائقة الجمال. فلما رآها «ابن ملجم» أخذت قلبه فخطبها. فقالت: لا أتزوجك حتى تشتفى لى. فقال: وما تريدين؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً وقتل على. فقال: أما قتل على فما أراك ذكرته وأنت تريديننى. قالت: بلى، التمس غرته فإن أصبته شفيت نفسك ونفسى ونفعك العيش معى، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. قال: والله ما جاء بى إلا قتل على، فلك ما سألت.
لم تكن النقمة هى الدافع الأقوى لقتل على، بل كان العشق. فطبيعة تحركات «ابن ملجم» بعد وصوله إلى الكوفة تؤكد حالة التردد التى سيطرت عليه، لكن جمال «قطام» حسم تردده حين هيأت له ما يحتاج من مساعدات للقيام بالمهمة.
كان «ابن ملجم» يعلم أنه هالك لا محالة بعد اغتيال الخليفة، لكن جمال «قطام» وفتنتها مثّلا عاملاً من عوامل حسم تردده، وهو يمنى نفسه بقبض الثمن، ولربما يكون قد قبض جزءاً منه. فالحوارات التى وقعت بينه وبين قطام -كما تحكيها كتب التراث- تؤكد أنه خلا إليها وتحدثا معاً بأحاديث مطولة. ولا خلاف على أن اندفاعها إلى البحث بين أهلها عمن يشد أزر «ابن ملجم» ويعاونه فى العملية يدلل على أنه أصبح موضع ثقة بالنسبة لها ولأهلها، وأصبحت هى بالمقابل موضع ثقته، وإلا كانت المسألة كلها عبثاً فى عبث.
ويدعونا ذلك إلى القول إن عامل العشق كان الأكثر حسماً فى قرار «ابن ملجم»، وإن «فتنة قطام» كانت السبب المباشر وراء مقتل الخليفة على بن أبى طالب، رضى الله عنه. يدلل على ذلك أبيات الشعر التى قالها أحدهم فى وصف حادثة اغتيال الخليفة، وفيها: «ولم أر مهراً ساقه ذو سماحةٍ... كمهر قطام بين عربٍ ومعجمٍ.. ثلاثة آلافٍ وعبدٌ وقينةٌ... وضرب علىٍ بالحسام المصمم.. فلا مهر أغلى من علىٍ وإن غلا... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم».
حان الوقت المعلوم، وحل الأجل المحتوم، وتحرك «ابن ملجم» لاغتيال على، فضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف، وهو ينادى على الناس لصلاة الفجر. وأغلب الظن أن أحداً لم يشارك مشاركة فعالة فى قتل على، وأن «ابن ملجم» هو الذى نهض بالأمر كاملاً، والدليل على ذلك المشهد الذى يحكيه «ابن الأثير»، وفيه أن عبدالرحمن بن ملجم كان مكتوفاً فدخلت عليه أم كلثوم ابنة على، وقالت له: «أى عدو الله! لا بأس على أبى، والله مخزيك! قال: فعلى من تبكين؟. والله إن سيفى اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة بأهل مصر ما بقى منهم أحد».