قد يكون من المفيد التذكير ببعض قصص الماضى ونحن نعيش حاضر المواجهة مع «فيروس كورونا».
تعالوا نبدأ الرحلة من عام 1791م (وافق عام 1205 هجرية) عندما تفشى الطاعون فى أنحاء المحروسة.
نفسية المصريين منذ بداية ذلك العام كانت متوجسة قلقة نتيجة الأزمات المتوالية التى عاشوها مع الولاة العثمانيين، وآخرها ذلك الاعتداء على حى الحسينية والذى ألجأ الأهالى إلى الاعتصام الجماعى بالجامع الأزهر، والإضراب عن فتح الدكاكين لعدة أيام، مما أربك حياة الناس، وحال فى أغلب الأوقات بينهم وبين الحصول على أبسط احتياجاتهم.
بعد هذه الواقعة بأسابيع ضربت السيول مصر لعدة أيام، اسودت فيها السماء بالغيم، وأرعدت وأبرقت، وجرفت السيول ما وجدته فى طريقها، فلم تفرق بين بيوت ودكاكين وقبور، واختبأ الناس وأولادهم فى البيوت والمساجد من الصواعق التى أشيع أنها خطفت أبصار الكثير من الأهالى الذين يعيشون فى الخلاء.
مرت أسابيع أخرى بعد سكوت السماء عن الإبراق والإرعاد وسحق الأرض بالسيل، حين انتشرت شائعة بين الناس -كما يحكى «الجبرتى»- تقول بأن زلزالاً عظيماً لعيناً سوف يضرب البلاد ليجعل عاليها سافلها، فارتعب الأهالى، ولم يعد لهم من حديث سوى الكلام فى أمر الزلزال.
قرر البعض الفرار إلى الصحارى، ولاذ آخرون بالأماكن المتسعة مثل بركة الفيل وبركة الأزبكية، ونزل البعض فى المراكب، وهم يقولون إن النيل آمِن من هزات الأرض.
ومر اليوم الموعود بالزلزال دون أن تهتز ذرة من أرض المحروسة، فبات الناس يضحكون على أنفسهم ويتندرون على خوف فلان وذعر علان، وهم الذين كانوا بالأمس شركاء فى الإحساس بالرعب من القادم.
فى منتصف ذلك العام كانت قارعة الطاعون التى تسببت فى قتل الآلاف من المصريين، وقلبت مصر رأساً على عقب، ولأن المصائب لا تأتى فرادى فقد اقترن الوباء بحالة شح للسلع فى الأسواق، وغلت الأسعار بفظاعة، فأصبح الناس بين قاتلين: الجوع والوباء.
الجوع والوباء شران أصابا غالب المصريين نهايات القرن الثامن عشر، لكن أمرهما كان مختلفاً بالنسبة للتجار ولشهبندر تجار المحروسة خلال أحداث «طاعون 1791».
فى ذلك الوقت كان يتربع على عرش المال والأعمال فى مصر مجموعة من كبار التجار أغلبهم من المغاربة، كما يذهب الدكتور حسام عبدالمعطى فى كتابه «العائلة والثروة: البيوت التجارية المغربية فى مصر العثمانية». أغلبهم ورث تاج التجارة أباً عن جد وابناً عن أب.
حقق أغلب هؤلاء ثروات طائلة نتيجة التجارة فى العديد من السلع الأساسية مثل التوابل والبن والأخرى الكمالية مثل الذهب والحرائر.
كان التجار يجلبون السلع الضرورية والنادرة من البلاد البعيدة -مثل الهند- ويتحكمون فى أسعارها بصورة تحقق لهم أرباحاً كثيرة، عبر استنزاف جيوب الأهالى المشتاقين إلى أطايب الهند وأعاجيبها، ويجيد هؤلاء التجار خلق الطلب عليها.
حرص كبار تجار مصر حينذاك على تحصين أموالهم ومصالحهم عبر التحالف مع رموز السلطة المملوكية داخل مصر، وكذلك خارجها عبر العلاقات الوطيدة التى ربطتهم برجال القصر السلطانى فى أسطنبول، الأمر الذى يرشدنا إلى تجربة قديمة للغاية للتحالف أو الزواج بين «المال والسياسة».
فى ذلك الوقت كان شهبندر تجار مصر شاباً فى مقتبل العمر هو الخواجا أحمد بن عبدالسلام المغربى الفاسى.
ينتمى «ابن عبدالسلام» إلى واحد من البيوت التى يطلق عليها «حسام عبدالمعطى» «البيوت التجاربة المغربية». فأبوه «عبدالسلام بن مشيش» أحد كبار التجار المغاربة الذين ربوا أولادهم على حب التجارة وعشق المغامرة ومحبة الأسفار والتنقل من مكان إلى مكان بحثاً عن الربح وسعياً وراء مضاعفة الثروة العائلية.
نفح الأب ولده «الخواجا أحمد» مبلغاً مالياً ليبدأ به الرحلة، فسافر الأخير وتاجر وربح، وضاعف المبلغ عدة مرات، وأصبح تاجراً يشار إليه بالبنان، وتمكن فى النهاية من الجلوس على عرش المال فى المحروسة حين تربع على كرسى «شهبندر تجارها»، وكان صاحب هذا المنصب حين ضرب الطاعون مصر عام 1791.