بقلم: د. محمود خليل
مشكلتنا فى أحيان أننا نأخذ الأمور من على السطح، فنبنى تصورات خاطئة حول مفاهيم دنيوية تشكل أساساً للنجاح أو الفشل فى الحياة.. ولعل الرزق واحد من أهم هذه المفاهيم.
الرزق بيد الله تعالى.. هذه حقيقة إيمانية لا يجادل فيها اثنان.. الله تعالى يقول فى كتابه الكريم: «وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ».
لكن ليس معنى الإيمان بأن الرزق بيد الله أن نتصور أنه يأتى بلا سعى أو جهد. وقد كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: «لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقنى وهو يعلم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة». فالخالق سبحانه وتعالى عادل، لذا فقد نصّ القرآن الكريم على أن الرزق قرين السعى «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى». فالإنسان محاسب على سعيه ويجزى عليه بعدل الله.
وأساس السعى هو الاجتهاد فى الأرض وليس التواكل: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».
قد تجد فى الحياة إنساناً يسعى ويكد، لكن رزقه فى المال شحيح، ولست بحاجة إلى تذكيرك بأن الرزق أنواع وأشكال وله صور متعددة فى الحياة.
وفى أحيان يشعر الإنسان بأن الله تعالى حرمه من تحقيق هدف معين سعى إليه واجتهد من أجله، لكنه يدرك بعد حين أن الخير فى ألا يدرك ما طمحت إليه نفسه أو هفا إليه فؤاده. فالله تعالى يمنع الإنسان من أشياء لخير الإنسان نفسه، لكنه يدرك الحكمة بعد حين.
فى سورة القصص حكى الله تعالى لنا قصة «قارون»: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ».
كان «قارون» أشهر رجل أعمال فى البلاط الفرعونى، وكنز مالاً لا يعد ولا يحصى، كان يتيه به على قومه، فى وقت كان ينصحه من عركوا الحياة بألا يفرح بما فى يديه، لأن الله لا يحب من يفخر ويختال بما كسب أو حصد.
كان البسطاء من المصريين ينظرون إلى موكب قارون فيقولون: «يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ». لم يتفهم من كانوا يرددون هذا القول أنهم لا يفرقون بين النعمة والنقمة. فما أتخم به قصر قارون وما انتفخ به جيبه لم يكن أكثر من نقمة عليه، وقد ثبت ذلك للناس بعد حين.
نزل عقاب الله بقارون وتبددت ثروته بسبب بغيه وطغيانه: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ»، أدرك من كانوا يتمنون حظه بالأمس أنهم كانوا أسعد حالاً منه: «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا».
الرزق سعى.. والسعى اجتهاد.. والله تعالى يعطى بعلمه.. والإنسان يتفاعل بوعيه المحدود بالزمان والمكان وهو ما يعجزه عن إدراك حكمة الله فى العطاء والحرمان.
وكما أن الرزق إرادة من الخالق فإنه أيضاً وعى واجتهاد وتدبير إنسان: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى».