لا يمثل النفاق مجرد حالة أرضية، بل أحياناً ما يتجاوز الأرض وأهلها إلى السماء.
نفاق أهل الأرض معروف ومفهوم. ويمثل حالة يقوم صاحبها بتدليك إنسان معين وتمجيد أفعاله وأقواله، وسكناته وحركاته، وهمساته وآهاته. إنه ببساطة حالة احتفاء وتطبيل وتهليل وتضخيم لسمات شخص بهدف نيل الرضا، بما يترتب على «الرضا» من مغانم ومكاسب يحصدها المنافق.
نفاق السماء حالة مختلفة يظهر فيها الفرد وهو يرتدى ثوب الدفاع عن أصول الدين، وقيمه وأخلاقياته، وقواعده وتشريعاته. ومن ينظر إلى الفرد وهو فى حالة الدفاع تلك يظن أنه ولى من أولياء الله الصالحين، أو قطب من أقطاب الزهد والتقوى والصلاح، أو شيخ من مشايخ الصوفية، ولو أتيحت الفرصة لمراقبة سلوكه فى الحياة اليومية فقد تجد أخلاقياته وأداءه بعيداً كل البعد عما يتشدق به من قيم، وما يدافع عنه من سلوكيات، وما يطنطن به لسانه من شعارات.
يصف الله تعالى البشر الذين تتلبسهم هذه الحالة فى الآية الكريمة التى تقول: «وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون».
دعونا نضرب أمثلة على ما نقول:
اشتعلت الساعات الأخيرة بجدل عجيب حول الفتاة التى التقطت مجموعة من الصور بثياب فرعونية عند هرم سقارة، ومن قبلها اشتعل جدل أكبر حول أزياء بعض الفنانات فى مهرجان الجونة.
الأمر اللافت أن بعض مَن تفاعلوا مع هذين الموضوعين (يجمع بينهما الفستان) بالشجب والإدانة وسكب الدمعات على الأخلاق التى انهارت والقيم التى تآكلت لم يقصروا فى نشر الصور التى تدلل على ما يقولون، ما يعنى بالبداهة أنهم شاهدوها وتملوا فيها ثم أحبوا أن يشيعوها بعد ذلك مشفوعة باللطمية الأخلاقية التى تجلل تعليقهم عليها.
أفهم أن تتحدث عن مسألة غياب الأمن عن الساحات الأثرية التى تمنع الحكومة التصوير فيها إلا بتصريح فى موضوع «فتاة سقارة»، أو تتحدث عن غياب الفن وعدم وجود أفلام مصرية تنافس فى مهرجان الجونة، لكننى لا أفهم أن تنشغل بالفساتين وتنشر الصور التى تراها معيبة ومناقضة للأخلاق من وجهة نظرك.
سلوك تراه مناقضاً لما تؤمن به من أخلاقيات وقيم هل من الحكمة أن تنشره؟ مؤكد أن الإجابة بلا. يبدو من ينشر وكأنه يريد أن يظهر أمام أهل الأرض كمدافع شرس عن القيم والأخلاق وأمام السماء كبرىء مما تفعله حسناوات الأرض بعد أن شبع فرجة عليهن!
سلوك ترفضه عليك ألا تشيعه. فالإيمان الحقيقى لا يعرف ذلك. كما أنه لا يعرف فكرة جلد من تعتبره أنت ومن وجهة نظرك الشخصية مخطئاً، بل يعرف الإشفاق والتماس الأعذار واحترام ظروف غيرك، لأنك لا تعلم كيف ستؤدى لو وضعتك الأقدار فيها.
مشهد لطيف جداً تجده فى فيلم «أرض النفاق»، يظهر فيه مسعود أبوالسعد وهو يخطب فى أهل دائرته الفقراء حتى يعطوه أصواتهم قائلاً: «طوبى للفقراء المفلسين.. ودبشة للأغنياء المترفين»، لينتقل المشهد بعدها إلى استعراض مائدة طعام «مسعود» التى تحتشد بالنعم والأطايب.
لا تكن «مسعود أبوالسعد».. واعلم أن السماء لا تحتاج إلى نفاق أحد. والعاقل من يترك الخلق للخالق ويركز فى أخلاقياته وسلوكياته.
الله تعالى هو الذى يحاسب البشر جميعاً. فدعوا الحساب لمالك يوم الحساب.