بقلم : محمود خليل
حتى تكتمل خلفية المشهد الذى مكّن جماعة الإخوان من الدخول إلى مرحلة «الميلاد الثانى» فى السبعينات، من المهم أن نتوقف أمام واحدة من الظواهر اللافتة التى هيّأت المناخ لنشر أفكار الجماعة، (بالإضافة إلى ثقافة النكسة، وحالة الدروشة الصوفية التى ضربت المصريين)، وتتمثّل فى الخطب المنبرية التى كان يلقيها عدد من الخطباء المشاهير ويتم تداولها حينذاك عبر شرائط الكاسيت، من هؤلاء الخطباء على سبيل المثال الشيخ إبراهيم عزت، والشيخ محمد الغزالى، والدكتور عبدالصبور شاهين، والشيخ عبدالحميد كشك.
وكان الأخير «كشك» أخطر هذه الأسماء على الإطلاق، وأكثرها قدرة على التغلغل والتأثير فى آذان البسطاء من المصريين.
الشيخ «كشك» ظاهرة تشهد على عصر، فقد كان الجمهور الذى يحرص على حضور خطبته للجمعة، وأحاديثه بمسجد دير الملاك -أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات- يُعد بالآلاف الذين يتزاحم بهم المسجد، والشوارع المحيطة به من كل الاتجاهات، وكانت خطبه تتميز بالطول، وكان بارعاً فى تأسيسها على خلطة -يصح أن تصفها بالخلطة الصوتية- تتفاعل فيها الآيات القرآنية، مع الأحاديث النبوية، مع الأبيات الشعرية، ويختلط فيها الدينى بالدنيوى، وفى الدرس الذى اعتاد أن يعطيه لمُريديه بعد الخطبة كانت تختلط الفُصحى بالعامية، والجاد بالهزل، والهجوم الحاد على رجال السياسة والفن، بالنكات والقفشات المضحكة. خلطة كانت تعجب الكثيرين، ودفعت الكثير من الخطباء إلى تقليده.
وأتصور أن الشيخ «عبدالحميد كشك» أنشأ ملمحاً جديداً فى خطب الجمعة، وهو ذلك الملمح الذى تتحول فيه الخطبة إلى حالة من حالات الدروشة الجماعية، حين كان يُردّد: مَن الواحد؟ فيرد الحاضرون: «الله»، مَن الأحد؟: «الله»، مَن القادر؟: «الله»، وهكذا يُعدّد أسماء الله الحسنى والناس تصرخ من ورائه «الله.. الله.. الله»، ثم يصرخ فيهم «وحّدوا الواحد»، فيرد الحاضرون «لا إله إلا الله»، ثم يصمت بعض الوقت نتيجة ارتفاع أصوات البعض بالنشيج والبكاء!.
استطاع الشيخ «كشك» أن يخلق حالة بين المصريين يمكن وصفها بـ«الحالة الصوتية»، فجمله كانت ذات إيقاع صوتى خاص جداً، خصوصاً عندما كان يوجّه سهام نقده إلى رجال السياسة والشخصيات العامة، لكنك إذا فكّرت فيها فسوف تشعر بأنها تعانى «فقر دم» مفزعاً على مستوى المضمون.
فزع الشيخ «كشك» من الطريقة التى يستهلّ بها «السادات» خطاباته «بسم الله»، فكان يلومه، قائلاً: «أثقلت عليك الرحمن الرحيم يا فاجر»؟!.
والجملة لا تحمل أى معنى، إذا أخذنا فى الاعتبار أن «السادات» لم يكن يتلو سورة من سور القرآن الكريم، وعندما كان يذكر السادات آية من آيات الذكر الحكيم -وكثيراً ما كان يفعل- كان يسبقها دائماً بالبسملة كاملة، وبالتالى فالجملة الصوتية اللافتة التى كان يرددها الشيخ «كشك» فى ذم «السادات» لم تكن تحمل معنى ذا بال، ومع ذلك فقد كانت تتردد على ألسنة الناس وقتها.
كان عداء الشيخ «كشك» لأم كلثوم مستحكماً، حتى بعد وفاتها، رحمها الله، فقد كان يردّد: «أم كلثوم تقول: كل نار تصبح رماد مهما تقيد.. طيب أخبار نار جهنم إيه يا ست؟!». كان الشيخ يردّد تلك العبارات فتعلو ضحكات الحاضرين، وترتسم على وجوههم أمارات الإعجاب به. ومن بين هؤلاء الضاحكين من كان يوصف فى الستينات بأنه «يفطر فول ويتغدّى كورة ويتعشى أم كلثوم»!.
والعجيب أن الشيخ كان يلهب «أم كلثوم» بهذه السياط الكلامية، فى الوقت الذى لا يخجل فيه من ترديد أبيات شعرية من قصائد غنّتها، خصوصاً القصائد الدينية، التى كان لها دور خطير -حين شدت بها- فى الارتقاء بفكر وأحاسيس وذوق المستمع المصرى