بقلم: د. محمود خليل
فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالتحديد فى عام 1928، ظهر على مسرح الأحداث شخصية نادت بالسلفية بطريقة مختلفة كل الاختلاف عن الطرق والمنهجيات التى اعتمد عليها رموز السلفية المتقدمون. وقد تعاضدت العديد من الظروف التى منحت هذه الشخصية حضوراً واضحاً فى عصرها، وامتد أثرها فيما بعد إلى العديد من الأجيال اللاحقة.
نحن بصدد الحديث عن شخصية «حسن البنا»، مؤسس جماعة الإخوان، ذلك الرجل الذى فهم أكثر من غيره الثالوث الذى استوت عليه الشخصية المصرية فى عصره، ثالوث: «الخبز، والدين، والحلم بالسيادة».
جمع حسن البنا فى هيئته بين ملامح الأفندية والشيوخ، فقد كان مثل الأفندية يرتدى «البدلة» والطربوش، لكنه كان يماثل الشيوخ فى إطلاق اللحية واحتراف مهنة الوعظ الدينى. كان الواعظ الشاب يرى أنه وُلد لكى يكون زعيماً، وأن الزعيم الحقيقى لا بد أن يكون مؤهلاً لذلك وليس زعيماً يصنعه ظرف. وكان يردد باستمرار قول الشاعر طرفة بن العبد: «إذا القوم قالوا من فتى خِلت أننى عنيت.. فلم أقعد ولم أتبلد».
وقف الشاب «المستشيخ» عام 1928 بميدان الإسماعيلية رافعاً كتاب الله فى يده وشرع يهتف: «الطريق ها هنا.. الطريق ها هنا». وكأن الناس قد ضلت عن الدين، وهو كلام لا ينطلى إلا على بسطاء المصريين، فى حين لم يجد صدى لدى «أفندية الوفد» أو الأعيان وملاك الأرض «الدستوريين».
كان «البنا» دقيقاً فى اختيار طريقه مع البسطاء. فمنذ البداية رسم «البنا» صورته وشكل هيئته بطريقة تحمل رسالة معينة إلى نوع «الأتباع» الذين قرر السعى نحو استقطابهم للعمل تحت راية جماعته.
الهيئة تختار زبونها، والأزياء كالطيور على أشكالها تقع. رسم حسن البنا هيئته بعناية وبشكل يحمل رسالة معينة تشى بالعناصر البشرية التى قرر استقطابها إلى جماعته. البدلة كانت تختار صغار الأفندية من الطلاب والموظفين المحدثين، أما اللحية فتختار البسطاء من العمال والحرفيين وأهل القرى. إنهم الصغار الأقل تعليماً ووعياً وقدرة اقتصادية ومنزلة اجتماعية. هم ببساطة «حرافيش المصريين» الذين تحدث عنهم نجيب محفوظ فى روايته «الحرافيش» وراهن على امتلاكهم قوة ذاتية خطيرة إذا تحركوا ككتلة واحدة.
«الحرافيش» كما وصف نجيب محفوظ سيرتهم هم غالبية «المصريين» الذين يعيشون فوق أرض المحروسة، من الطبقات الفقيرة والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، وثمة مجموعة من السمات المشتركة التى تجمع هذا الشتات، يتحدد أولاها فى «المظلومية»، فالمظالم أكثر ما يسود حياتهم، والشكوى من الواقع أكثر ما يتردد على ألسنتهم. والثانية التدين اللسانى، فالعجز عن مواجهة مِحن الأرض تدفع هؤلاء إلى الاستدعاء المستمر للسماء، ولكن لأن الإحساس بالظلم تمكن من نفوسهم فهم لا يتورعون عن العدوان على غيرهم، متى أتيحت لهم الفرصة، ولأن تدينهم لسانى فهم لا يتوانون عن إسقاط تعاليمه من تفكيرهم وهم يظلمون. السمة الثالثة تتمثل فى الحلم بظهور فتوة عادل يمتاز بالقوة ويتعامل مع الجميع بميزان عدل، وقد ورثوا عن أجدادهم أن خير نموذج على ذلك تحقق فى عصر الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
لم يفكر «الحرافيش» فى حل ينبع منهم، ليغيروا أوضاعهم، ويحققوا العدل فيما بينهم، وليمنحوا المعانى السامية للدين فرصة للتمكن من نفوسهم ويتركوا اللكلكة فيه باللسان. دائماً ما كانوا يحلمون بخروج واحد من صفوفهم يعمل وحده ليعيد التوازن إلى حياتهم الكسولة المهتزة، الحياة التى تزينها الأحلام بوفرة الخبز وخلو البال.
أدرك حسن البنا تلك الحقيقة فى هذا الرهط المترهل من «الحرافيش» فقرر غزوهم، لكن يبقى أن الصورة التى رسمها «البنا» لنفسه لم تكن واقعية بالمرة، فقد ظن أن بمقدوره اللعب بالحرافيش وبالسلطة، سواء أكانت سلطة الملك أو الأحزاب، وأن فى مكنته -وقت أن تضغط عليه- أن يحرك «الحرافيش» فى مواجهتها ليرهبها ويردعها، مثلما يردع الفتوة غيره بـ«النبوت». وكأنى بخصومه يضحكون عليه وهم يلعبون به من حيث صور له غروره أنه يلعب بهم. فقد استخدموه فى ضرب شعبية «الوفد» والدفاع عن الحكومات الديكتاتورية ودعم ساكن قصر عابدين، وبعد أن استهلك دوره وأصبح «كارت» محروقاً تخلصوا منه.