بقلم: د. محمود خليل
اهتمام خاص أولاه رواد التواصل الاجتماعى يوم 15 يناير من العام الحالى للحديث عن جمال عبدالناصر فى الذكرى 103 لميلاده.
يظل الزعيم الراحل حالة شديدة الخصوصية فى تاريخ تجربة يوليو 1952. شواهد عدة تقول إن الرجل لم يزل حاضراً فى ذهنية ووجدان الكثير من الأجيال التى عاصرته فى سنوات حكمه الأخيرة أو ولدت بعد رحيله بعقود.
الانحياز يولّد فى الكثير من الأحوال نوعاً من التحيز. والمكانة التى ما زال «عبدالناصر» يحتفظ بها لدى العديد من الأجيال أساسها انحيازه إلى الطبقة الفقيرة، والمساحات والفرص التى أتاحها للطبقة الوسطى، هذا الانحياز ولّد نوعاً من التحيز لدى قطاع كبير من المستفيدين من أبناء هاتين الطبقتين لجمال عبدالناصر، ودفع الكثيرين منهم إلى استرجاع أيامه والتشبث بالحالة التى أوجدها طيلة سنين حكمه.
«عبدالناصر» -خلافاً لغيره من حكام مصر- أعطى المصريين أشياء فى أيديهم. منح الفلاحين أرضاً يزرعونها، وأنشأ للعمال مصانع يعملون فيها، ونقابات تدافع عن حقوقهم، أعطى المواطن الفقير والمتوسط دعماً ييسر له الحصول على ما يحتاج من سلع وخدمات بأسعار معقولة، فتح أبواب الجامعات أمام الفقراء ليتعلموا فيها بالمجان، والتزم بتوظيف الخريجين فى مشروعات الدولة.
باختصار اعتمدت تجربة «عبدالناصر» على مفهوم «الدولة الراعية» أو الدولة التى تحتضن المواطن البسيط وتساعده على الحياة، لذلك أحبه البسطاء، ولم تزل تجربته متوهجة فى عقول وأفئدة من قرأوا أو سمعوا عنها وأعجبتهم حتى الآن.
هناك قطاع آخر من المصريين على النقيض من ذلك يرى أن «عبدالناصر» بالغ فى رعاية شريحة عريضة من البسطاء، فحوّلهم إلى «عيال للدولة»، وجعل المواطن عالة على الدولة فى طعامه وشرابه وسكنه وعلاجه وتعليمه وتوظيفه، وأن المبالغة فى إتاحة الفرص أدت إلى تراجع مستوى التعليم فى المدارس والجامعات ومستوى الرعاية الصحية فى المستشفيات الحكومية بسبب الحصول على الخدمة بالمجان، وأدت سياسات الدعم إلى عجز فى موازنة الدولة، وتسبب التزام الدولة بتعيين الخريجين فى خلق مشكلات كبرى داخل مشروعات القطاع العام، أدت إلى فشلها فى مراحل لاحقة.
وحول مفهومى «الدولة الراعية» و«عيال الدولة» احتدم جدل حاد ما بين أجيال متعاقبة من المصريين بعد وفاة الزعيم عام 1970 وحتى اللحظة التى نعيش فيها، وهو ما جعل من «عبدالناصر» شخصية عابرة للعصور والأجيال.
الجانب السياسى لا يشغل المصريين كثيراً عند تقييم تجربة «عبدالناصر». ومن ينتقدون اعتماد نظام الستينات على التنظيم السياسى الواحد والرأى الواحد وصانع القرار الأوحد وغياب التعددية عنه لا يجدون آذاناً مصغية من جانب البسطاء الذين لا يجدون غضاضة فى فكرة الاستفراد بالقرار أو بالرأى أو بالحكم. وليس من المهم أن يكون الحاكم مستبداً، الأهم أن يكون عادلاً، وهم يرون فى «عبدالناصر» إنساناً عادلاً منح الفقراء فرصة فى الحياة.
سوف تظل شخصية «عبدالناصر» من أكثر الشخصيات إثارة للجدل ما بين المثقفين، لكنها أيضاً سوف تبقى الشخصية الأكثر التصاقاً بوجدان الجماهير.. رحمه الله.