الديمقراطيون عقدوا العقدة وأعربوا عن إصرارهم على عزل «ترامب»، إن لم يكن من خلال نائبه «بنس» فعبر «الكونجرس».
توجُّه الديمقراطيين لتنفيذ الخطوة أثار حفيظة الجمهوريين من أنصار «ترامب» وهددت الجماعات اليمينية المتطرفة بالويل والثبور وأعاظم الأمور، إذا نفذ السهم وعُزل «ترامب».
كما ذكرت لك منذ ثلاثة أيام: «أمريكا على المحك».
المسألة لا تعود إلى صعود «ترامب» إلى الحكم ثم نزوله عنه، بل هى أبعد زمناً من ذلك بكثير، إنها تعود إلى اللحظة التى تفكك فيها الاتحاد السوفيتى، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تغرِّد وحدها على مسرح النظام السياسى العالمى.
منذ عام 1991 وأمريكا تشعر بأنها استفردت بالعالم، وأصبحت القطب الأوحد الذى يتحكم فى دوله. هذه الحالة ولدت شعوراً لدى صناع القرار والسياسيين فى الولايات المتحدة بفائض قوة، وأن أحداً لن يستطيع معهم إلا الطاعة وتنفيذ الأوامر.
فائض القوة أو غرورها يؤدى بصاحبه إلى نوع من الاضطراب فى التفكير، وشعور صناع القرارات فى الإدارة الأمريكية بأنهم يغردون وحدهم أفقدهم التوازن الذى تمتع به آباؤهم أيام الحرب الباردة.
فالإحساس بوجود قوة موازية يخلق نوعاً من التعادلية التى تؤدى إلى التوازن، والتعادلية هى أصل الأشياء فى الكون والفضاء المحيط ببنى البشر، كما يقرر توفيق الحكيم -رحمه الله- فى كتابه «التعادلية».
لقد فقدت الولايات المتحدة إحساس التوازن مع تفكك الاتحاد السوفيتى ففقد العديد من مسئوليها فضيلة الاتزان.
حاول المفكرون والسياسيون الأمريكان اختراع عدو بديل، ووجدوا ضالتهم فى الإرهاب والجماعات الإرهابية، خصوصاً بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001.
الإحساس بفائض القوة وغرورها هو الذى دفع الولايات المتحدة إلى غزو العراق عام 2003 تحت زعم امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل، وقد أثبت تتابع الأحداث أن حرب «بوش» الذى كان يصف نفسه بـ«الرئيس المؤيد من الله» تأسست على «كذبة كبيرة».
دفعت أمريكا ثمن الحرب على العراق ضحايا ومصابين ومليارات من الدولارات كانت سبباً -كما يقدر البعض- فى الأزمة المالية العقارية التى ضربت الولايات المتحدة وزحفت من بعدها إلى أوروبا عام 2008.
ومع وصول «ترامب» إلى الحكم عام 2017 بدأت نعرة القوة التى كانت توجَّه إلى الخارج فى أوائل عهده تجد لها صدى فى الداخل الأمريكى، وكان جوهر هذا التحول متعلقاً بالإحساس بقوة «العِرق الأبيض» على أصحاب البشرة السمراء، وإحساس أصحاب المال والأعمال بالتفوق على أفراد الطبقة الوسطى، وخلاف ذلك.
الشعور بالقوة أفقد الولايات المتحدة الإحساس بالتوازن الداخلى، ففقد ساستها اتزانهم.
«ترامب» فقد اتزانه حين قرر رفض نتيجة الانتخابات الرئاسية، وأخذ يردد أنه الفائز فيها، ثم حرض أنصاره على اقتحام مبنى الكونجرس يوم 6 يناير، ثم تاب وأناب وسلَّم بالهزيمة وأعلن أنه سوف يسلم السلطة إلى «بايدن» فى 20 يناير الجارى.
«بايدن» والديمقراطيون فقدوا اتزانهم هم الآخرون حين قرروا اتخاذ التدابير لعزل «ترامب» قبل بضعة أيام من تركه البيت الأبيض، فهددت «بيلوسى» وتوعدت، ثم بدأت فى اتخاذ إجراءات عملية، نالت تأييداً من جانب «بايدن»، لإمضاء عزمها على عزل خصمها اللدود.
الآن وصلت الولايات المتحدة إلى مفترق طرق، وأثبتت بالتجربة أن «القوة المطلقة» تساوى «مفسدة مطلقة».