فى الحكاية العاشرة من حكايات الحرافيش، وعنوانها «التوت والنبوت»، يعالج نجيب محفوظ واحدة من كبرى الإشكاليات فى حياة البشر.
إنها إشكالية الحيرة بين رغيف العيش والقوة، ووضع الأولوية لرغيف العيش حتى ولو كان فى ذلك تهديد لأى جانب من جوانب إنسانية الإنسان: صحته، كرامته، حريته.
يواجه الإنسان المعاصر نفس المأزق الذى واجهه حرافيش نجيب محفوظ.
إنسان العصر يجد نفسه فى حيرة بين النزول والعمل للحصول على القوت وبين الخوف من «نبوت كورونا» الذى توحش وأصبح يضرب فى كل اتجاه، وكلما استطاع الطب أن يحاصر سلالة منه عاند وتحور فى سلالة جديدة تزيد من سقوط أهل الطب فى بئر الحيرة والاضطراب.
منذ ساعات أعلنت بريطانيا الطوارئ فى مواجهة سلالة جديدة من فيروس كورونا أسرع انتشاراً وأقدر على الضرب والإصابة. وزير الصحة البريطانى أعلن أن الحالات آخذة فى الارتفاع فى وسط لندن وأن أرقام الإصابة اليومية يمكن أن تتضاعف خلال أسبوع واحد.
تصريح الوزير قوبل بقدر واضح من القلق من جانب المواطن البريطانى الذى يخشى العودة إلى سياسات الإغلاق بما لها من تأثيرات اقتصادية سلبية عليه، وبدأ البعض يعلن عن تململه ورفضه تلويحات الحكومة بذلك.
بدوره علَّق وزير الصحة البريطانى على ذلك بقوله: «أتفهم التأثير على الاقتصاد، لكن النصيحة العامة الواضحة للغاية هى أن مناطق لندن يجب أن تتحرك معاً، لأن جميع المناطق تشهد زيادة فى الحالات، ونحن بحاجة إلى وقف ذلك».
الناس معذورة فهى تريد الحصول على القوت، والجلوس فى البيوت يضعهم فى مآزق اقتصادية ومعيشية لا حصر لها، والبعض يفضل الموت بـ«كورونا» على الموت جوعاً.
والمشكلة أن الحكومات تعانى هى الأخرى. فالإغلاق له تأثيرات بالغة الضرر على مصادر الدخل القومى، فى وقت تكون مطالبة فيه بتعظيم مواردها حتى تتمكن من تقديم الدعم المطلوب للجالسين فى البيوت، ممن يكسبون قوتهم يوماً بيوم.
حوار وزير الصحة البريطانى مع مواطنيه لا يختلف كثيراً عن حوار عاشور الصغير مع الحرافيش فى الحكاية العاشرة من ملحمة نجيب محفوظ.
أراد عاشور الصغير أن يلقن الحرافيش درساً ملخصه أن وضع القوت فى الأولوية كفيل بتدمير حياة الإنسان.
سألهم: ما الذى يعيد الحارة إلى سيرتها الأولى؟. رد الحرافيش: أن يعود الناجى الكبير. قال عاشور: الميت لا يعود. رد أحدهم: ينقصنا رغيف الخبر. صرخ عاشور: اللى ناقصكم القوة. ردوا: الرغيف أسهل، صرخ: القوة أشرف وأكرم.
تبدو المفاضلة ما بين القوت وأى تهديد يواجهه الإنسان إشكالية كبرى فى كل العصور وداخل كل البيئات.
البشر أصحاب النظر القصير الذين لا تبارح نظرتهم أقدامهم لا يعدلون عن رغيف العيش بشىء ويرونه إكسير الحياة وأن أى تهديد يهون أمامه، والنتيجة أنهم يخسرون رغيف العيش والحياة معاً.
وآخرون لا يجدون طعماً للرغيف المغلَّف بالتهديد أو الذل أو إهدار الكرامة.
لا بد للبشر من البحث عن معادلة وسط تحميهم من التهديدات المدمرة للحياة وفى الوقت نفسه تحفظ لهم رغيف العيش.