تنظيم الأسرة ثقافة وليس إعلاماً.. تلك حقيقة تؤكدها التجربة المصرية.
منذ الستينات من القرن الماضى وثمة تحذيرات رسمية من مخاطر الزيادة السكانية على جهود التنمية.
فى كل الأحوال كانت وسائل الإعلام تتلقف التحذير الرسمى وتعيد إنتاجه فى شكل رسائل إعلامية تستمر لفترة من الوقت، وتحاول توعية المتلقى بمخاطر كثرة الإنجاب وتأثيراتها السلبية على مستقبل الفرد والمجموع.
تحدث الرئيس عبدالناصر عن «تنظيم الأسرة» فتمدد الحديث عنها داخل الصحف وفى الإذاعة والتليفزيون ووصل الأمر إلى الأزهر فأصدر الشيخ محمود شلتوت كتيباً يؤكد فيه أن الدين لا يمانع فى تنظيم الإنجاب.
الأمر نفسه تكرر أيام الرئيس السادات، ثم فى عصر مبارك، ونشط صناع الإعلام فى تدشين حملات إعلامية مطوَّلة تستهدف توعية الناس بأهمية تنظيم الأسرة.
لم تؤدِّ هذه الجهود الإعلامية المتصلة التى انفجرت جهودٌ شبيهة بها فى الوقت الحالى إلى حل واحدة من أخطر المعضلات التى نواجهها كمصريين، والمتمثلة فى نمو السكان بشكل لا يتعادل مع نمو الموارد، الأمر الذى يخلق مشكلات معيشية لا تنتهى، فى الصحة والتعليم والنقل والمواصلات والإسكان والتوظيف وخلافه.
المسألة ليست إعلاماً قدر ما هى ثقافة. وثقافة المصريين بمكوناتها الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا تجد غضاضة فى كثرة الإنجاب.
الثقافة الدينية (بمعنى فهم الناس للدين) تلتفت إلى حديث «تناكحوا تناسلوا»، ولا تلتفت إلى قول النبى صلى الله عليه وسلم «بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل».. تلتفت إلى قوله تعالى: «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق» كآية كريمة لا تتصل من قريب أو بعيد بمسألة تنظيم الإنجاب، بل تتعلق بقتل أحياء يسعون، ولا تنتبه إلى قوله تعالى: «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين» والتى جعلت الفرد القوى يعادل 20 من الضعفاء.
الثقافة الاقتصادية التى يسودها الفقر تحفز أيضاً على الإنجاب، حين تجد فى كثرة العيال أداة لجلب المال، عن طريق تشغيل الجميع، بشكل يؤدى إلى طوابير من الضعفاء.
الثقافة الاجتماعية التى لا تزال تؤثِر الذكر على الأنثى مهملة قوله تعالى «يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور»، تدعم أيضاً فكرة العَدْو وراء الإنجاب.
كذلك الثقافة السياسية التى تنظر إلى تنظيم الأسرة كرسالة سلطوية يجب التمرد عليها عبر كثرة الإنجاب تفاقم من المشكلة، خصوصاً حين تتلقف آلة الإعلام التى ينظر الكثيرون إليها كإحدى أدوات السلطة رسالتها وتحاول إقناع الناس بها، دون مبادرة أصيلة من القائمين عليها.
تغيير الثقافة الداعمة لكثرة الإنجاب يتطلب كخطوة أولى أن تكون فكرة تنظيم الأسرة أولوية أصيلة لدى كل المؤسسات المسئولة عن تكوين العقل الجمعى، لا ترتبط بعصر أو نظام سياسى أو فترة زمنية معينة، ويتطلب كخطوة ثانية أن تكون رسالة تنظيم الإنجاب مكوناً من مكونات التعليم والإعلام والدراما والفكر والفن والخطاب الدينى.
نحن لدينا فى مصر وزارة يعرف أغلب الناس أن اسمها «وزارة الصحة» رغم أن مسماها الرسمى هو «وزارة الصحة والسكان»، والسر فى ذلك أنها لا تقوم بجهد حقيقى فى مجال التنظيم السكانى!
بصراحة مصر بحاجة إلى وزارة قوية للسكان يكون هدفها الأول تغيير الثقافة الداعمة لكثرة الإنجاب، لأننا طيلة السنين السابقة لم نلتفت إلا إلى أساليب التنظيم عبر التعامل مع الجسد، وأهملنا بصورة أو بأخرى التعامل مع العقل.
وكأن العقل زائدة دودية.