بقلم : محمود خليل
اعتلى عباس حلمى الثانى نجل الخديو توفيق سدة الحكم بعد وفاة أبيه عام 1892 وفى نفسه إحساس عميق بالمرارة من النهاية المأساوية لأبيه، فقد مات توفيق فجأة فى الأربعين من عمره، ويذهب عباس الثانى -فى مذكراته- إلى أن صحة أبيه انهدت بسبب ما مورس عليه من ضغوط من جانب عرابى والإنجليز والباب العالى، وأنه رأى أن يستسلم لهذه الضغوط حماية للبلاد من الوقوع فى براثن حرب أهلية. كانت أول خطوة اتخذها الخديو الجديد بعد توليه الحكم الإطاحة بمصطفى فهمى، رئيس الوزراء الذى يصفه قائلاً: «بدا لى أن وجود هذا الرجل على رأس الوزارة غير مقبول، وكانوا يأخذون عليه عدم تمسكه بمبادئ الإسلام، ولم يترك أية فرصة لكى يسخر من الإسلام ولمحاربة الباب العالى».
مصطفى فهمى، كما تعلم، هو والد صفية زغلول زوجة الزعيم سعد زغلول. وتقييم عباس حلمى له يؤشر إلى المعايير التى كان يعتمد عليها فى اختيار رجاله، وأولها التمسك بمبادئ الإسلام، وثانيها الولاء للباب العالى فى إسطنبول. ويتقاطع عباس الثانى مع الأول فى هذا النهج، ورغم الحفاوة والشاعرية التى يصف بها «عباس الثانى» جده إسماعيل باشا وخططه فى جعل مصر قطعة من أوروبا، فإن مسارات سنى حكمه تشهد بأنه كان أقرب نسبياً إلى عباس طوسون. كان لتخلص عباس حلمى من مصطفى فهمى -رجل الإنجليز كما يصفه فى مذكراته- أثر السحر فى نفوس الأداهم المصريين الذين عبّر الخديو الجديد عن مشاركته لهم فى كراهية الإنجليز وكراهية مَن يعمل معهم أو لصالحهم، وقد بان ذلك فى مظاهرة الحب التى أحاطه بها أهالى القاهرة عندما ذهب لصلاة الجمعة فى الحسين، وقد توقف الخديو عباس حلمى طويلاً أمام هذا الحدث فى مذكراته.
التفَّ شباب «الأداهم» حول الخديو الشاب الجديد، ووجدوا فيه روحاً وطنية لم يجدوها فيمن سبقوه، كما تقاطع معهم فى الطابع الدينى المحافظ الذى كرسه فى أوساطهم عباس حلمى الأول. ومن ناحيته استخدم آخر خديو فى مصر الشباب الوطنى كأداة سياسية فى صراعه مع خصمه الأول اللورد كرومر. لعب مصطفى كامل فى هذا السياق دوراً نحفظه جميعاً. وتكاد تكون رسالة مصطفى كامل تعبيراً عن عقل الخديو ورؤيته لفكرة استقلال مصر. لم يبرأ الزعيم الوطنى الشاب من الروح الأدهمية حين تزيَّا بزيها الدينى وأخذ يدافع عن دولة الخلافة وبالغ فى الحديث عن تبعية مصر للدولة العثمانية العلية كمبرر لعدم شرعية الاحتلال الإنجليزى لمصر.
كان لدى عباس حلمى وعى واضح بالأداهم المصريين يلخصه فى مذكراته قائلاً: «الشعب والفلاحون لا يأبهون من حيث المبدأ إلا بكل ما كان يمس خبزهم وهدوءهم بشكل مباشر». تركيبة «أدهم» كانت واضحة وهى جزء من تركيبة البسطاء فى كل زمان ومكان، إنه يحب وطنه حراً مستقلاً متقدماً، بشرط ألا يأتى ذلك على حساب خبز يومه وألا يقلق راحته. فمعادلة «الخبز والهدوء» هى المعادلة الحاكمة له. وقد تحسنت الأحوال الاقتصادية فى عهد عباس الثانى مقارنة بالظروف التى سادت أواخر عصر إسماعيل وخلال عصر توفيق، وكان لهذا التحسن صدى طيب لدى «الأداهم»، لكنه من ناحية أخرى جعلهم يربطون باستمرار بين التمسك بمبادئ الإسلام -كما كان يردد عباس- وتحسن أحوال الحياة، وقد أعاد الأداهم إحياء هذه العلاقة من جديد بعد الهجرة إلى بلاد النفط، رغم أن التمسك بالإسلام فى الحالتين كان ظاهرياً ولم يزد على الشعارات التى تتردد باللسان.